كرر الرئيس الأميركي، جو بايدن، يوم الثلاثاء، في خطابه بخصوص الانسحاب الأميركي من أفغانستان ونهاية الحرب هناك، الدفاع عن حيثيات قرار الانسحاب، والتي قامت كما قال، على اعتبارين: مصلحة أميركا والوفاء بوعده لإغلاق هذا الملف.
أسهب الرئيس في الكلام عن خسائر هذه الحرب وعبثيتها وبالتالي عن ضرورة ختمها بالشمع الأحمر، بعد أن استمرت أطول من اللازم. لم يأت بجديد سوى المزيد من إصرار على صواب قراره الذي يلقى إجمالاً قبولاً واسعاً في صفوف الأميركيين الذين أتعبتهم أفغانستان. سبقه البنتاغون الاثنين بالإعلان عن انتهاء عملية الترحيل قبل موعدها بـ24 ساعة، مع عرض لجوانبها التكتيكية. ثم تلته كلمة لوزير الخارجية أنتوني بلينكن، تحدث فيها عن الانتقال من الحرب إلى الدبلوماسية في العلاقة مع أفغانستان.
لكن هذا الديكور لم يقو على حجب حقيقيتين أساسيتين لا ينكرهما أحد في واشنطن ولا تقوى الإدارة على دحضهما؛ أولهما أن أميركا خرجت مهزومة من حرب العشرين سنة وبكلفة بشرية ومالية هائلة. وثانياً أن عملية الإجلاء كانت معيبة وفاضحة، بل ومهينة إلى حد زاد من تشنيع الهزيمة.
هذا الواقع استوجب المطالبة بمحاسبة المسؤولين، في أقله عن فوضى المغادرة وما أدت إليه من أخطاء قاتلة. كما تعالت الأصوات الداعية إلى القيام بمراجعة شاملة لاستخلاص الدروس من هذه التجربة القاسية وتداعياتها.
لكن المعطيات والسوابق تقول إن كليهما مستبعد. المساءلة، قطع الرئيس بايدن الطريق عليها من خلال حصر مسئولية ما جرى به. تجاهل الإشارة إلى الثغرات والشوائب، ناهيك إلى وجوب التحقيق بملابساتها. وكأنه يعرف أن العجلة التي طالب بها بتنفيذ الانسحاب، أدت إلى اختصار خطوات ساهمت في وقوع الأخطاء. وتردد أنه رفض أن يقدم بعض كبار الضباط استقالتهم كثمن للسقطات التي حصلت. كما بدا أنه سارع إلى محاصرة واحتواء أسباب التوتر الذي نشأ نتيجة لذلك بين البنتاغون ووزارة الخارجية وبما تكّفل بإزالة أي احتمال لاستقالات في الوزارتين. وهو في ذلك لم يأت بجديد. هكذا كانت الحال في التعامل مع "الهزيمة" في حربي فييتنام والعراق. الأولى، لا جرى فيها تحقيق ولا محاسبة، مع أنها استمرت عشر سنوات وبكلفة جبال من الخسائر البشرية والعسكرية ومن دون موافقة الكونغرس المطلوبة دستورياً. وفي العراق أيضاً جرى تجاهل التحقيق في حربها بالرغم من ثبوت فبركة مسوغاتها.
حسب تحليلات ودراسات معمقة لهذه الظاهرة، لم يكن غياب المساءلة واستخلاص الدروس في كل هذه الحروب، صدفة ولا هو مجرد التفاف وشطارة لتمييع المسئولية؛ بقدر ما هو نتيجة لواقع تفرضه التركيبة وإفرازاتها. فالحروب وفق هذه الرؤية، هي تحصيل حاصل لفائض القوة الذي يجرّ إلى توسيع فائض الهيمنة. وبحكم هذه المعادلة فهي، أي الحروب، تصبح عملية شبه دورية لصرف هذا الفائض. ويجري التذكير في هذا السياق بموازنة البنتاغون السنوية التي تفوق 700 مليار دولار والتي توازي أو تزيد على الموازنات العسكرية للدول المتقدمة، وعلى البنتاغون إنفاقها كلها. وبعض معدات الجيش تتحول إلى قوى الشرطة التي "صارت شبه متعسكرة" هي الأخرى. ويذهب أصحاب هذا التعليل إلى التذكير بتحذير الرئيس الأميركي السابق، دوايت ايزنهاور، من سطوة المجمع الصناعي العسكري وسعيه المتواصل إلى تأمين دوام التصريف لمنتجاته التي تشكل الحروب زبونها الأفضل. ولذلك تتكرر الحروب من دون مساءلة ولا مراجعات جادة لاستخراج الدروس وبما يحد على الأقل من تكرارها ومن غير ما يبرر الانخراط فيها وتحمل أعبائها.
حرب أفغانستان تنطبق عليها هذه المواصفات، إذ لا تفسير مقنع لاستمرارها عقدين من الزمن من دون أن ينتبه أحد إلى أعطابها وبالتالي إلى إصلاحها قبل وصولها إلى الانهيار التام والسريع الذي انتهت إليه. وهذه النهاية أعادت إحياء الجدل بين المدرسة التقليدية الموروثة من زمن الحرب العالمية الثانية ونتائجها والتي تؤكد على أهمية التواجد العسكري في الخارج لحسابات جيو استراتيجية وبين المدرسة المعاكسة والتي تنادي بالانكفاء والتراجع عن "سياسة تأمين الحماية للآخرين" والتي تقودها رموز من المحافظين القدامى. بايدن يتأرجح بين المدرستين. يميل إلى الانسحاب الاستنسابي وليس الشامل من الخارج. يزعم أن الدبلوماسية هي خياره الخارجي المفضل. لكن من غير التزام عام وشامل بهذه القاعدة. وبالتالي هو لم يخرج وربما غير قادر على الخروج كلياً، من قاعدة استخدام فائض القوة رغم خروجه المدوّي من أفغانستان.