يثير الاجتماع الذي التأم يوم الخميس الماضي، بين العسكر وتحالف قوى الحرية والتغيير، انقسامات واسعة في السودان، بين من يرى فيه فرصة لإيجاد حل للأزمة السياسية، وبين من يعترض عليه خوفاً من تكرار أخطاء الماضي، وألاعيب العسكر الساعين للخروج من مأزق الانقلاب.
الاجتماع عقد بوساطة سعودية - أميركية، قادتها مساعدة وزير الخارجية الأميركي مولي في، وسفير الرياض في الخرطوم علي بن جعفر. وخرجت تفاصيله ببيان من "الحرية والتغيير" أكد فيه أنه دخل الاجتماع بغرض تقديم مقترح أساسي أمام الوسطاء والعسكر، يتعلق بإنهاء الانقلاب العسكري لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وما ترتب عليه من قرارات وإجراءات، وتسليم السلطة للشعب عبر إجراءات واضحة.
وأشار التحالف إلى أن الوسيطين طلبا منه تقديم رؤيته كاملة في هذا الصدد في اجتماعات مقبلة، لم تحدد تواريخها. كما تمسك التحالف، في بيانه، بأن تكون المفاوضات محصورة بين فريقين فقط، الأول فريق الثورة وقواه الحية، والآخر فريق الانقلاب ومؤيديه، من دون إغلاق طاولة التفاوض أمام أحزاب وتحالفات أخرى بعيدة عن أزمة الانقلاب.
أبدى العسكر استعدادهم للتعاطي مع مقترحات قوى الحرية والتغيير، من خلال الموافقة على تقديمها رؤيتها المتكاملة للحل
وأكد أن أي عملية سياسية يجب أن تبدأ بإنهاء الانقلاب، والتأسيس الدستوري الجديد الذي يقوم على سلطة مدنية كاملة، والنأي بالمؤسسة العسكرية عن السياسة من دون مشاركتها في السلطة المدنية، والقيام بإصلاحات أمنية وعسكرية لبناء جيش واحد ومهني وقومي.
فرصة لخروج آمن للقوات النظامية
لاحقاً، لمحت قيادات في "الحرية والتغيير"، مثل ياسر عرمان الذي تحدث في مؤتمر صحافي أول من أمس الجمعة خصص من المجلس المركزي لتحالف الحرية والتغيير للدفاع عن اللقاء، إلى وجود "فرصة لخروج آمن للقوات النظامية، من أجل الخروج بحكمة وشرف من الوضع الحالي".
لكن المكون العسكري لم يصدر عنه أي بيان أو تصريح صحافي يوضح فيه موقفه من الحوار ومن مقترحات قوى الحرية والتغيير. لكن طبقاً لمصادر محسوبة على "الحرية والتغيير" تحدثت مع "العربي الجديد"، فإن المكون العسكري أصر، خلال الاجتماع في منزل السفير السعودي، على إشراك أطراف أخرى في العملية السياسية.
وأشارت إلى أنه تمسك بالآلية الثلاثية، المكونة من بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا (إيغاد)، التي دعت لحوار أشمل الأسبوع الماضي، وهو الحوار الذي قاطعه تحالف "الحرية والتغيير".
والآلية الثلاثية هي مبادرة تبنتها بداية الأمم المتحدة في يناير/ كانون الثاني الماضي، لتقريب وجهات النظر بين أطراف الأزمة السودانية، وانضم إليها لاحقاً الاتحاد الأفريقي ومنظمة "إيغاد"، التي دعت الأسبوع الماضي إلى حوار قاطعته معظم الأطراف، عدا القريبة من معسكر العسكر.
لجنة مشتركة بين العسكر و"الحرية والتغيير"
وبحسب المصادر، فقد أبدى العسكر استعدادهم للتعاطي مع مقترحات قوى الحرية والتغيير، من خلال الموافقة على تقديمها رؤيتها المتكاملة للحل. كما وافق العسكر على أن يقدم التحالف رؤية أخرى حول إجراءات تهيئة المناخ، وشكّلا لهذا الغرض، بحسب مصادر "العربي الجديد"، لجنة مشتركة مكونة من الفريق شمس الدين الكباشي، وهو عضو في مجلس السيادة الحالي، ليمثل العسكر، وطه عثمان القيادي في "الحرية والتغيير".
وتأتي تنازلات العسكر، ولو بطريقة ظاهرية، بعد فشلهم في التقدم خطوة واحدة، بعد بيانهم الأول قبل أكثر من 7 أشهر، والفشل في تشكيل حكومة بديلة لحكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لملء الفراغ الدستوري التي خلفها قرار إقالتها. كما عجز العسكر عن إقناع الشارع بفكرة الانقلاب، إذ تستمر بصورة شبه يومية التظاهرات والمواكب ضد الانقلاب.
وفي تطور لاحق، التقت الآلية الثلاثية أمس السبت بقوى إعلان الحرية والتغيير. وقال القيادي في "الحرية والتغيير" عمر الدقير، في مؤتمر صحافي في الخرطوم، إنهم "أبلغوا الآلية بأنهم لن يكونوا جزءاً من حوار يشرعن الانقلاب، ولا ينهيه، ولا يؤدي إلى قيام سلطة مدنية من قوى الثورة".
وأكد أن "قوى الحرية والتغيير غير راغبة كذلك في الدخول في شراكة جديدة مع العسكر، الذين عليهم العودة إلى ثكناتهم كما يطالب الشارع". وبدا أن قيادات "الحرية والتغيير" تحاول الدفاع عن موقفها، خصوصاً بعد تصاعد الانتقادات لها جراء موافقتها على لقاء العسكر.
وقال القيادي في تحالف قوى الحرية والتغيير الريح محمد صادق، لـ"العربي الجديد"، إن التحالف ذهب إلى الاجتماع غير الرسمي مع عسكر الانقلاب لتأكيد جديته أمام المجتمع الدولي والإقليمي بشأن الحل السياسي، خصوصاً أن أحد طرفي الدعوة هو السعودية، وهي لاعب إقليمي مهم.
ولفت إلى أن التحالف حرص على نفي ما تزعمه الولايات المتحدة، الطرف الآخر في الوساطة، عن تزمت "الحرية والتغيير" في الوصول إلى حل سياسي. وأشار إلى أن الخطوة يُمكن أن تسهم في تحديد خيارات واضحة لكل من الولايات المتحدة والسعودية بشأن دعم التحول الديمقراطي في البلاد وموقفهما من الانقلاب.
ولفت صادق إلى أن "المقترحات التي قدمتها قوى الحرية والتغيير في غاية الموضوعية والوضوح، ويمكن أن تؤدي إلى انفراجة في الأزمة السياسية التي خلقها انقلاب 25 أكتوبر". وأكد أن "أمام المكون العسكري خيارين لا ثالث لهما، إما المضي في انقلابه بتشكيل حكومة منفرداً وتحمل عقبات ذلك، أو التراجع عن الانقلاب والاستجابة للضغوط الدولية والإقليمية، وقبلها الضغوط الداخلية، بما يجنب البلاد المزيد من الجراحات".
"الحرية والتغيير" لم يفكر بتقديم تنازلات
وحول حدود التنازلات التي يمكن أن يقدمها تحالف قوى الحرية والتغيير خلال عملية الحوار، أشار الريح محمد صادق إلى أن التحالف لم يصل إلى مرحلة التفكير في التنازلات، لأن ذلك رهن بقيام المكون العسكري "أولاً بإجراءات تهيئة المناخ بإنهاء العنف بحق المتظاهرين السلميين، وإطلاق سراح المعتقلين، والتراجع عن القرارات الارتدادية بتمكين عناصر النظام البائد (نظام عمر البشير)، وإنهاء الحوار الذي تشرف عليه الآلية الثلاثية، وكل ذلك من أجل تحقيق مناخات إيجابية للحوار".
الطيب محمد صالح: المكون العسكري الذي جلست معه قوى الحرية والتغيير غير مؤتمن على أي عملية سياسية
وبشأن ما تردد عن مقترحات لخروج آمن للعسكر، نفى صادق وجود مقترحات عملية في هذا الصدد، لكنه لم يستبعدها مستقبلاً إذا كانت ستساهم في تحقيق التحول الديمقراطي، على ألا يشمل ذلك حق أولياء الدم في القصاص وفق ما تثبته التحقيقات الجنائية.
وحول مدى قبول الشارع بعملية الحوار مع العسكر، نبّه صادق إلى أن تحالف "الحرية والتغيير" حمل مطالب الشارع الرئيسية وحوّلها إلى برنامج سياسي ووضعها على الطاولة، وإن تحققت ووجدت طريقها للتنفيذ، فلن تجد معارضة.
وكان عدد من الأحزاب السياسية والأجسام النقابية ولجان المقاومة السودانية قد رفض ما ذهب إليه تحالف "الحرية والتغيير"، وعده خيانة لشعار رئيسي بعد الانقلاب أجمع عليه الشارع بأن "لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية".
وكان لافتاً بروز أصوات أجسام داخل التحالف ترفض ما جرى، مثل محمد ناجي الأصم، القيادي في تجمع المهنيين السودانيين، الفصيل الموالي لـ"الحرية والتغيير"، وهو أحد أيقونات الثورة في نسختها الأولى، والذي أبدى، في تغريدة استنكاره القاء الخميس الماضي، وعدّه تكراراً من "الحرية والتغيير" لتجربة الأخطاء وسوء التقدير.
وبيّن الأصم أنه لا يعقل أن يكون السبب المعلن من التحالف لقبوله الجلوس بصورة مباشرة مع المجلس العسكري الانقلابي هو دعوة المبعوثة الأميركية والسفير السعودي فقط.
واعتبر أن "إسقاط الانقلاب وتأسيس انتقال ديمقراطي جديد لا يمكن أن يحدث من دون إزاحة الزمرة العسكرية الانقلابية المجرمة من المشهد تماماً، وإبعاد المؤسسة الأمنية والعسكرية من السلطة والمال، ومن الصراع السياسي".
وأكد أن "العسكر حاولوا مرات عدة، وجربوا أن يستولوا على السلطة، وفشلهم في تحقيق ذلك لا يعني أنهم تخلوا عن الفكرة، إنما يبحثون فقط عن هدنة جديدة يعيدون فيها ترتيب أوراقهم لانقلاب جديد وضحايا وشهداء آخرين".
اللقاء لن يقود إلى حل الأزمة
أما تجمع المهنيين السودانيين بشقه الثاني، فقد عبر بشكل أكثر حدة عن رفضه اللقاء. وأوضح المتحدث باسمه مهند مصطفى، لـ"العربي الجديد"، أنّ اللقاء ليس فيه جديد وتخلٍ صريح من "الحرية والتغيير" عن شعارات الثورة، ولن يقود إلى حل للأزمة، بل يعقدها. واعتبر أنه "لن يؤدي أيضاً إلى محاسبة مرتكبي الجرائم بحق أبناء الشعب، ولا لتصفية جيوب النظام البائد، وهو في النهاية تكرار لتجربة الشراكة مع العسكر في 2019".
وبرأي مصطفى، فإن اللقاء سيقود فقط إلى نفخ الروح في الانقلاب، ومنحه فرصة أخرى لاستنزاف موارد الدولة عبر شركات المؤسسات العسكرية المالية وإهدار موارد الدولة.
واستنكر كل المبررات التي ساقتها قوى الحرية والتغيير، مشيراً إلى أنها مجرد تنازلات عن مبادئ من دون أن تحصل على أي تنازل. ولفت إلى أن "الحديث عن مخرج آمن للعسكر غير أخلاقي، لأن العسكر سفكوا دماء أكثر من 100 شهيد، وأصابوا 5 آلاف، وقاموا باغتصابات، وتلاعبوا بالأمن القومي وهربوا أطناناً من الذهب لروسيا، ويفكرون في بيع الموانئ السودانية، فلا يمكن الحديث بعد ذلك عن إفلاتهم من العقاب".
وقال مصطفى إن "توصيف أن السودان يمرّ بأزمة سياسية غير دقيق، لأن البلاد بمرحلة مخاض ميلاد جديد للسودان، عبر ثورة شعبية ستنتصر في النهاية، وتحقق جميع مطالبها، وتقوم بعملية فرز واسعة تبين من معها ومن ضدها".
يشار إلى أن تجمع المهنيين السودانيين، الذي كان جسماً واحداً، تعرض إلى التقسيم. وفي مايو/أيار 2020، جرت انتخابات داخل التجمع فازت بها مجموعة فضلت، بعد شهرين من انتخابها، سحب التنظيم من قوى إعلان الحرية والتغيير، في حين رفضت مجموعة محمد ناجي الأصم النتيجة، واحتفظت باسم تجمع المهنيين السودانيين واستمرت عضواً في "الحرية والتغيير".
وقال الطيب محمد صالح، العضو في "لجان المقاومة" السودانية في منطقة الحاج يوسف في الخرطوم: "إنهم في لجان المقاومة غير معنيين تماماً بخيارات ومواقف تحالف قوى الحرية والتغيير وحساباته السياسية".
وشدد على أن "كل مواقف لجان المقاومة تعتمد بالأساس على ميثاق تأسيس سلطة الشعب الموقع عليه في مايو/أيار الماضي، وهو ميثاق يرفع شعار اللاتفاوض، ويفرض مواصلة التصعيد الثوري لحين سقوط الطغمة العسكرية، وهو ما نمضي به من خلال حراكنا اليومي، الذي دفعنا ثمنه أكثر من 100 شهيد حتى الآن".
المكون العسكري غير مؤتمن على العملية السياسية
وأضاف صالح لـ"العربي الجديد"، أن "المكون العسكري الذي جلست معه قوى الحرية والتغيير غير مؤتمن على أي عملية سياسية، ولا ينبغي أن يكون جزءا من أي حوار سياسي أو عملية سياسية أو شراكة، ويستوجب على المؤسسة العسكرية استبعاد القيادات الخمسة من أعضاء المكون العسكري"، في إشارة إلى البرهان ونائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي، بالإضافة إلى شمس الدين كباشي وإبراهيم جابر وياسر العطا.
محمد ناجي الأصم: العسكر يبحثون فقط عن هدنة جديدة يعيدون فيها ترتيب أوراقهم لانقلاب جديد
وأشار إلى أنه "بعد استبعادهم، وتسليم السلطة بشكل كامل للشعب لقيام سلطة مدنية، يتم الجلوس للحوار والنقاش حول قضايا الفترة الانتقالية، وهو نقاش محصور بين المدنيين أنفسهم، بعيداً عن المؤسسة العسكرية التي واجبها التفرغ لحماية الدستور وحدود البلاد".
على العسكر التنازل عن السلطة
من جهته، لفت أستاذ العلوم السياسية صلاح الدومة، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن الطرف الوحيد الذي عليه تقديم تنازلات لإنقاذ الدولة من الانهيار هو المكون العسكري، الذي أمامه طريق التنازل عن السلطة وتسليمها للمدنيين.
وبرأيه، فإن هذا أمر في حد ذاته ليس تنازلاً، بل حق منصوص عليه في الوثيقة الدستورية التي انقلب العسكر ضدها. وأشار إلى أن العسكر يواجهون ضغوطاً داخلية وخارجية منقطعة النظير، وسيكون مقترح الخروج الآمن مناسباً لوضعهم الحالي، وقد يقبلون به خصوصاً مع استمرار الاحتجاجات الشعبية وتزايد زخمها نسبة للضيق المعيشي وزيادة الوعي، وتكشف الحقائق للسودانيين وإدراكهم حقيقة فشل العسكر وأجندتهم.
وحول الاهتمام السعودي الأميركي بالسودان ودوافع توسطهما، أوضح الدومة أن واشنطن والرياض يدفعهما الإحساس بالمخاطر من تصرفات وتوجهات المكون العسكري، الذي أراد التلاعب بأمن منطقة البحر الأحمر الاستراتيجية، من خلال محاولات جلب قواعد روسية إلى المنطقة.
وأشار إلى زيادة أهمية المصالح الاقتصادية في السودان عقب الحرب الروسية الأوكرانية، وما تركته وستتركه من تداعيات، لا سيما وجود البترول ومشتقاته في السودان، وهو أمر تستعد شركة "شيفرون" الأميركية لاستغلاله، وهي التي بدأت التنقيب عنه منذ سبعينيات القرن الماضي، مؤكداً أن كل ذلك، مع غيره من أسباب خارجية، سيدفع بعسكر السودان لتسليم السلطة بطريقة تحفظ لهم ماء الوجه ليس إلا.