كادت العاصمة الليبية طرابلس تنزلق أمس الثلاثاء إلى موجة جديدة من العنف، فجّرتها محاولة رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان فتحي باشاغا الاستقرار فيها، لتندلع اشتباكات عنيفة لنحو ساعتين صباح أمس بين كتائب عسكرية موالية لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وأخرى أعلنت استقبال باشاغا في مقرها، قبل أن تنتهي الأحداث بإعلان الأخير الخروج من العاصمة.
لكن ذلك فتح جدلاً حول خلفيات ما جرى، مع تضارب المعلومات حول الدوافع التي قادت باشاغا للقيام بخطوته، خصوصاً أن حكومته كانت قد أكدت أنها ستمارس مهامها من سرت، إضافة إلى التسريبات عن ضغوط إقليمية ودولية أجبرته على المغادرة.
وهذه المرة الثانية التي يحاول فيها باشاغا الدخول إلى العاصمة، بعد مرة أولى في 12 مارس/آذار الماضي، إذ تحركت قافلة عسكرية موالية له من مصراتة إلى طرابلس لكنها لم تدخل العاصمة.
باشاغا في طرابلس لساعات
وأطل باشاغا بشكل مفاجئ في تسجيل مصور فجر أمس الثلاثاء معلناً وصوله مع عدد من وزرائه إلى طرابلس، وقائلاً إنه لاقى ترحيباً حاراً عند دخوله المدينة. كذلك تداولت وسائل إعلام محلية بياناً لعمداء بلديات العاصمة، وعدد من النواب، مرحبين بدخول باشاغا إلى طرابلس.
من جهته، وجّه وزير الداخلية في حكومة باشاغا، عصام أبو زريبة، فجر أمس، كلمة للشعب الليبي، أعلن فيها أن الحكومة "بصدد استلام كافة الوزارات والمؤسسات داخل العاصمة".
وجاءت المفاجأة بإصدار "كتيبة النواصي"، التابعة لوزارة الداخلية في حكومة الدبيبة، بياناً فجر أمس رحّبت فيه بدخول باشاغا إلى العاصمة، وأمّنت دخوله واستضافته في مقرها.
أعلنت "كتيبة النواصي"، التابعة لوزارة الداخلية في حكومة الدبيبة، ترحيبها بدخول باشاغا واستضافته في مقرها
لكن سرعان ما تحركت كتائب موالية للدبيبة، أبرزها "جهاز دعم الاستقرار"، لتندلع اشتباكات استُخدمت فيها أسلحة رشاشة خفيفة ومتوسطة وثقيلة، قرب مقر "كتيبة النواصي" وفي أنحاء أخرى من طرابلس، أفيد لاحقاً عن تسجيل "خسائر بشرية" فيها.
بعدها، أعلن باشاغا، خلال سلسلة تغريدات، خروجه من طرابلس بـ"سلام وأمن". وقال في إحدى التغريدات "رغم دخولنا السلمي للعاصمة من دون استخدام العنف وقوة السلاح واستقبالنا من قبل أهل طرابلس الأفاضل، فوجئنا بالتصعيد العسكري الخطير الذي أقدمت عليه مجموعات مسلحة تابعة للحكومة منتهية الولاية". وأضاف أنه خرج "حرصاً على أمن وسلامة المواطنين وحقناً للدماء". فيما حاولت "العربي الجديد" التواصل مع مكتب باشاغا من دون الحصول على رد.
وذكر ضابط في مديرية أمن طرابلس، طلب عدم الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، أن باشاغا وصل إلى طرابلس عن طريق بلدة الزنتان (180 كيلومتراً غرب طرابلس) برفقة رتل مسلح تابع لكتيبة النواصي، مروراً بمناطق سيطرة اللواء 444، جنوب شرق طرابلس، الذي لم يعترضه.
وأضاف "كان من المفترض أن ينظم عدد من التشكيلات المسلحة متوسطة التسليح والموزعة في أكثر من مكان في طرابلس، عملية سيطرة سريعة على مقار الحكومة، لكن جهاز دعم الاستقرار فاجأ الجميع بحجم القوة التي قام بنشرها، وطوّق سريعاً مقر كتيبة النواصي، وكل ذلك حدا بالكتائب الأخرى إلى التراجع عن وعودها لباشاغا".
وبعد نحو أربع ساعات من ظهور باشاغا في كلمة مرئية مقتضبة أكد فيها دخوله طرابلس، تمكن قائد اللواء 444 من الدخول في وساطة لإنهاء الاشتباكات وتوفير ممر آمن لخروج باشاغا، وهو ما تم بنقله إلى مقر اللواء 444 تحت حراسة مشددة، وفقاً للمصدر الأمني.
انتقادات لباشاغا من حلفائه
وقالت مصادر ليبية لـ"العربي الجديد" إن اتفاقاً جرى بين ممثلي باشاغا وقادة بعض التشكيلات المسلحة في طرابلس، أثناء لقائهم في اجتماعات مونترو في سويسرا غير الرسمية، الأسبوع الماضي، أكد خلالها هؤلاء القادة استعدادهم لتقديم الحماية لباشاغا وتسهيل وصوله إلى مقرات الحكومة في طرابلس.
اتفاق بين ممثلي باشاغا وقادة بعض التشكيلات المسلحة في طرابلس، على تقديم الحماية لباشاغا وتسهيل وصوله إلى مقرات الحكومة
ووفقاً للمصادر، فإن نتائج اجتماعات مونترو كان أبرزها اتفاق القادة العسكريين على ضرورة توحيد المؤسسة العسكرية في البلاد والبدء في وضع خطط لذلك بدءاً من اجتماعات التي ستجرى في المغرب في الفترة المقبلة.
لكن المصادر قالت إن باشاغا يواجه نقداً محلياً كبيراً حيال خطوة دخول طرابلس من دون تنسيق كامل مع داعميه. وأكدت المصادر أن من بين منتقدي باشاغا عدداً من النواب المقربين من رئاسة مجلس النواب، بمن فيهم رئيس البرلمان عقيلة صالح، وكان صالح قد أبلغ السفير الأميركي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، أثناء لقائه به في القاهرة أخيراً، عزم باشاغا وحكومته العمل من مدينة سرت، وسط البلاد.
مطالبة أميركية بضغوط مصرية على باشاغا
لكن مصادر دبلوماسية مصرية كشفت لـ"العربي الجديد" أن اتصالاً "متوتراً" جرى بين نورلاند، ووزير الخارجية المصري سامح شكري، الذي تدعم بلاده باشاغا، في أعقاب اندلاع الاشتباكات في طرابلس أمس.
وأوضحت المصادر أن المسؤول الأميركي أكد على الوزير المصري "ضرورة الضغط على باشاغا للانسحاب فوراً من العاصمة لمنع اندلاع مواجهات أوسع".
نورلاند طالب شكري بالضغط على باشاغا للانسحاب فوراً من العاصمة لمنع اندلاع مواجهات أوسع
وأشارت المصادر إلى أن شكري أكد خلال الاتصال "عدم مسؤولية القاهرة عن الخطوة التي أقدم عليها باشاغا"، مضيفة أن نورلاند شدّد لشكري على أن الولايات المتحدة "لن تسمح ببقاء باشاغا في العاصمة، وأنها تعارض تلك الخطوة"، محذراً من أنه "ستكون هناك إجراءات عقابية بحال بقي هناك".
وأعربت السفارة الأميركية في ليبيا عن "قلقها من اشتباكات طرابلس"، داعية جميع الجماعات المسلحة إلى الامتناع عن العنف. وأضافت في منشور لها أن "استيلاء القادة السياسيين على السلطة أو الاحتفاظ بها من خلال العنف سيؤذي فقط الليبيين"، مضيفة أن السبيل الوحيد القابل للتطبيق للوصول إلى قيادة شرعية هو السماح لليبيين باختيار قادتهم.
وفي السياق، قال مصدر خاص مقرب من اللجنة المعنية بالملف الليبي في مصر، لـ"العربي الجديد"، إن "اتصالات جرت فجر أمس الثلاثاء بين المسؤولين في جهاز المخابرات العامة المصري، ومسؤولين في مكتب باشاغا، أسفرت عن انسحاب الأخير من طرابلس، بعد اتصالات إقليمية طلبت تدخّل مصر".
وأشار إلى أن رسائل وصلت إلى القاهرة "تؤكد استعداد الجزائر للتعامل مع المشهد في ليبيا بشكل يحفظ أمنها الخاص من جهة ويضمن استقرار الأوضاع في البلد الجار لها من جهة أخرى"، مؤكداً أن "الرسائل الجزائرية تضمنت تشديداً على عدم القبول بحكومة باشاغا تحت أي ظرف".
وقال المصدر إن الجزائر "أكدت أنها لن تعترف بأي حكومة أو سلطة تنفيذية جديدة في ليبيا بخلاف حكومة الوحدة إلى حين إنجاز انتخابات تنتج عنها سلطة جديدة".
وبحسب المصدر، فإن القاهرة خلال الفترة الأخيرة "أخذت خطوة للوراء على صعيد التعامل الخشن"، مؤكداً أن مصر "لا تتبنى حلولاً عسكرية في هذه الأثناء، كون الأوضاع الإقليمية الحالية لا تتحمل أي أزمات جديدة في المنطقة"، ومشيراً إلى أنه "تم إبلاغ باشاغا بالرؤية المصرية".
وأوضح المصدر أن هناك "عدم رضا مصرياً بشأن بعض تحركات واتصالات باشاغا خلال الأيام الأخيرة، والتي كان من بينها لجوئه إلى تركيا لانتزاع شرعية لحكومته على حساب الدعم المصري".
في غضون ذلك، قال المتحدث الرسمي باسم الخارجية المصرية أحمد حافظ إن مصر "تتابع بقلق التطورات في طرابلس"، مؤكداً أن "موقف بلاده بضرورة الحفاظ على الهدوء في ليبيا، والحفاظ على الأرواح والممتلكات، ومقدرات الشعب الليبي". وحثّ "جميع الأطراف الليبية على ضبط النفس والامتناع عن اتخاذ أي خطوات من شأنها تأجيج العنف".
حكومة الدبيبة تتوعد
على المقلب الآخر، تحدثت وزارة الدفاع في حكومة الدبيبة عن "محاولة تسلل" من قبل "مجموعة مسلحة خارجة عن القانون إلى داخل طرابلس لإثارة الفوضى باستخدام السلاح".
وأكدت في بيان أن "الأجهزة العسكرية والأمنية تعاملت بإجراءات حازمة ومهنية لمنع هذه الفوضى وإعادة الاستقرار للعاصمة، ما أدى إلى فرار المجموعة المسلحة". وأضافت "تسببت هذه العملية الصبيانية المدعومة بأجندة حزبية في أضرار مادية وبشرية ما زالت أجهزة الدولة تعمل على حصرها ومعالجتها". وأكدت أنها "ستضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه المس بأمن المواطنين وسلامتهم".
تحدثت حكومة الدبيبة عن "محاولة تسلل" من قبل مجموعة مسلحة إلى داخل طرابلس لإثارة الفوضى
من جهته، قال الدبيبة، في تصريحات خلال جولة تفقدية للأضرار الناجمة عن الاشتباكات، إن من يريد حكم البلاد عليه التوجه إلى الانتخابات. وأضاف: "ناوين الشر وناوين الحرب والدمار"، في إشارة إلى باشاغا والكتائب الموالية له.
وتابع، وفق فيديو مصور له أثناء جولته التفقدية، "جاؤونا في عقاب (آخر) الليل وكسروا ودمروا وتسببوا في خسائر لأرزاق الناس والليبيين". كذلك طالب الدبيبة النائب العام والمدعي العسكري بفتح تحقيق بشأن الاشتباكات المسلحة في طرابلس.
من جهته، دان رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، الاشتباكات "بين الإخوة" في أجزاء من طرابلس، داعياً في بيان مقتضب إلى إيقافها "فوراً". وأكد أن "الحل الوحيد للانسداد السياسي هو مسار دستوري واضح تجرى على أساسه الانتخابات".
كذلك أبدت المستشارة الأممية ستيفاني وليامز قلقها البالغ إزاء الاشتباكات. وحثت على "ضبط النفس والامتناع عن الأعمال الاستفزازية، بما في ذلك الخطاب التحريضي والمشاركة في الاشتباكات وتعبئة القوات".