دخل مسار الانتخابات الليبية، المقرر إجراؤها في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل بحسب خريطة الطريق الأممية، مرحلة يلفّها الغموض والترقب، بعد تعليق مجلس النواب الليبي يوم الثلاثاء الماضي، جلساته الخاصة بتداول مشروع قانون الانتخابات، دون تحديد موعد لاستئنافها، وسط اعتراض مستمر من المجلس الأعلى للدولة حول تفرد "النواب" بمناقشة القانون وإصداره، ومحاولات لم تتوقف من جانب البعثة الأممية لإحياء دور ملتقى الحوار السياسي الليبي في صياغة القاعدة الدستورية للانتخابات. كما لم تهدأ الضغوط التي تمارسها عواصم دول كبرى لإجراء الانتخابات في موعدها.
يصر مجلس النواب الليبي على مناقشة وإقرار قانون الانتخابات بشكل منفرد
وحدّدت خريطة الطريق للحل السياسي الليبي، التي صاغها ملتقى الحوار في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، 24 ديسمبر المقبل موعداً لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا، لكن الخلافات بين الأطراف الليبية، والحسابات السياسية لكلّ منها، طاولت الأطر الدستورية والقانونية لهذه الانتخابات، خصوصاً بعد فشل ملتقى الحوار في إعداد قاعدة دستورية مؤقتة للانتخابات، خلال جلساته في جنيف التي عقدها من 28 يونيو/حزيران إلى 2 يوليو/تموز الماضيين. علماً أن الملتقى كان قد بدأ بمناقشة مقترح واحد قدمته اللجنة القانونية المنبثقة عنه في مايو/أيار الماضي، ثم تدارس مقترحاً آخر قدمه أعضاء اللجنة الاستشارية المنبثقة عنه في جنيف في شهر يونيو، وانتهى به المطاف بثلاثة مقترحات في جنيف، والآن هناك أربعة مقترحات مما يسمى "لجنة التوافقات"، والتي دعت البعثة الأممية الملتقى إلى بحثها الأربعاء المقبل، فيما يتدارس مجلس النواب قانونه الخاص.
وعلى الرغم من إصراره على مناقشة وإقرار قانون الانتخابات بشكل منفرد، جاء قرار مجلس النواب تعليق جلسات مداولات أعضائه لقانون الانتخابات، والتي استمرت لأسبوعين، مفاجئاً ودون تفسير لأسبابه، خصوصاً أنه لم يأت، كما يبدو، تجاوباً مع موقف مجلس الدولة المطالب بضرورة التنسيق معه في صياغة القانون الانتخابي. وأكد رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، في تصريحات صحافية أخيراً، أن مجلس الدولة هو "جسم استشاري"، واعتبر أن "إصدار التشريعات هو اختصاص أصيل لمجلس النواب، ولن يشاركنا أحد فيه"، ما يشير إلى تمسكه بموقفه المتصلب من مشاركة مجلس الدولة في هذا الاستحقاق. كما أنه لم يصدر عن النواب الليبيين أي تعليق حيال دعوة البعثة الأممية لهم للتشارك مع مجلس الدولة في إعداد قوانين الانتخابات.
غير أن تعليق مجلس النواب جلساته بشكل مفاجئ، جاء بالتزامن مع إعلان المتحدث باسمه، عبد الله بليحق، الثلاثاء الماضي، عن تسلم رئاسة المجلس المقترح الجديد لميزانية الحكومة (الحكومة الانتقالية التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة)، لعام 2021، لعرضه على مجلس النواب، والتي تبلغ 111 ملياراً و273 مليون دينار ليبي (حوالي 24 مليارا و500 مليون دولار أميركي)، بزيادة نحو 17 مليار دينار ليبي عن مشروع سابق، وذلك بعد يوم واحد من إعلان عقيلة صالح، تأجيل مناقشة بند الميزانية، بناء على طلب من حكومة الدبيبة، كونها بصدد مراجعة الميزانية.
عطل مجلس النواب إقرار الميزانية بصيغتها الأولى
ويعد ملف الميزانية العامة للحكومة الليبية، من أكثر الملفات إشكالية، إذ اعترض مجلس النواب، المنوط به المصادقة على الميزانية، على مقترحات الحكومة مرتين، بسبب ضخامة المبلغ المقترح، قبل أن يكشف صالح عن السبب الحقيقي وراء عدم إقراره لها عند زيارته قائد مليشيات شرق ليبيا خليفة حفتر، في مقره العسكري بالرجمة، في 17 يوليو الماضي. وقال صالح حينها، إن "بعض النواب يطالبون بميزانية مقدرة ومحترمة" لقيادة مليشيات حفتر، بل جعلها شرطاً لتمرير الميزانية.
ويربط الأكاديمي الليبي، والأستاذ الجامعي في العلوم السياسية، عبد الحكيم بن نجي، بين قرار تعليق جلسات "النواب" لبحث قانون الانتخابات، ومقترح الميزانية الجديد. وعلى الرغم من مضي أيام عدة على إعلان "النواب" تسلمه مقترح الميزانية (المعدلة بعد تحفظ لجان "النواب" طويلاً)، إلا أنه لم يعلن بعد عن موعد للمصادقة عليها. لكن بن نجي يعتقد أن المقترح الجديد، الذي أدرج مليشيات حفتر بالميزانية، قد يكون كفيلاً بتغيير موقف المجلس وتليينه إلى حد ما. على الرغم من ذلك، فإن الأكاديمي الليبي، يلفت في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الأموال لن تتمكن وحدها من تفكيك جبهات المعرقلين لمسار الانتخابات، فإن تحصّل حفتر على الأموال، فهناك مصالح وأهداف أخرى، ولن يقبل قادة المشهد الحالي بأي حدود قانونية أو دستورية تمنعهم من البقاء في المرحلة المقبلة". ويضيف بن نجي أن "الأموال تبدو مهمة للأطراف المسلحة لتقوي نفسها ووجودها، لكن الأطراف السياسية لن تقبل بأقل من إطار دستوري مفصّل على مقاسها لضمان خوضها الانتخابات، ولن يحدث هذا في ظل إصرار كل طرف على إقصاء الآخر"، معتبراً أن حالة الانسداد الحالية تتسبب في الغموض الذي يكتنف مصير الانتخابات.
ويوم الجمعة الماضي، طالبت منظمة العفو الدولية الحكومة الليبية، بالتراجع عن منح المليشيات المسلحة في البلاد "الشرعية والرواتب"، كاشفة في تقرير لها عن اقتراح الحكومة تخصيص 2.5 مليار دينار ليبي (552 مليوناً و241 ألف دولار) لحفتر ومليشياته، بالإضافة لما مجموعه 221 مليون دينار (حوالي 49 مليون دولار) لمجموعات مسلحة أخرى موجودة في غرب البلاد.
طالبت "العفو الدولية" الحكومة الليبية بالتراجع عن منح المليشيات الشرعية والرواتب
وبحسب الباحث الليبي في الشأن السياسي، بلقاسم كشادة، فإن هذا المقترح، على الرغم من ضخامة مخصصاته، إلا أنه سيساهم في تعبيد الطريق أمام وصول البلاد إلى الانتخابات، مشيراً إلى علاقة هذه الأموال بملف المقاتلين المرتزقة، أحد أهم الملفات الواجب حلحلتها، وإزالة خطر تأثيرها على الانتخابات ونتائجها.
وبالنسبة لقضية المرتزقة تحديداً، يوضح كشادة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "من بين الإشكاليات التي تواجه قدرة تخلي طرفي الصراع المسلح السابق عن المرتزقة، هو عدم قدرتهم على منحهم أموالهم"، مشيراً إلى أن حجم المخصصات لحفتر يدل على تورطه في علاقات واسعة مع المرتزقة الذين جلبهم للقتال في صفوف مليشياته، خصوصاً مسلحي شركة "فاغنر" الروسية العسكرية الخاصة.
ويلفت كشادة إلى أن خطوة الحكومة (برفع الميزانية) قد تكون تجاوباً مع المساعي الدولية لدفع الدول المنخرطة في الصراع الليبي، للتفاوض على سحب قواتها والمرتزقة، وتوفير البيئة الملائمة لإجراء الانتخابات. ويرجح كشادة، في هذا الإطار، أن تكون الحكومة قد تلقت ضمانات من الأطراف المسلحة، بعدم استخدامها لهذه الأموال لتقوية نفسها، ولرفض نتائج الانتخابات، أو محاولة منها لفرض نفسها في المشهد المقبل، معتبراً أن الخطوة قد تكون وراءها ضمانات من دول إقليمية على علاقة بالأطراف المسلحة، وفي سياق جهود دولية تضغط فيها على مجلسي النواب والدولة من أجل التوافق على صياغة الأطر القانونية اللازمة للانتخابات.
وجاءت دعوة البعثة الأممية لملتقى الحوار السياسي للانعقاد مجدداً، الأربعاء المقبل، لمناقشة نتائج اجتماعات لجنة التوافقات بشأن القاعدة الدستورية، لتزيد من حالة الغموض، خصوصاً أن الدعوة حصلت بعد إعلان البعثة عن استنفاد لجنة التوافقات "جميع إمكانيات التوصل إلى حل وسط بشأن مقترح واحد للقاعدة الدستورية".
وفي هذا الخصوص، يعبّر كشادة عن استغرابه من تناقض موقف البعثة وطريقة تعاطيها مع الأزمة الدستورية التي تعانيها البلاد، معتبراً أن دعوة البعثة للملتقى للقاء مجدداً، زادت من حالة التعقيد، بعدما ضمّن مجلس النواب الجانبين الدستوري والقانوني في مشروع قانون واحد، وعقد جلسات لمناقشته، قبل تعليقها إلى أجل غير مسمى. ويقول إن "البعثة عادت وفكّكت القضية مجددا، فالملتقى عليه أن يتوافق على قاعدة دستورية، لكن البعثة لم تحدد موقفها من مشروع قانون الانتخابات الذي يناقشه مجلس النواب". ويتساءل: "كيف سيتوافق أعضاء الملتقى بعدما أقرّت البعثة بأن اللجنة التي شُكّلت للتوافق بين الأعضاء استنفدت جميع الإمكانيات للتوصل إلى تصور واحد للقاعدة الدستورية؟". كما يشير إلى استمرار الغموض بشأن الانتخابات البرلمانية، فـ"مشروع القانون المطروح أمام النواب يناقش الانتخابات الرئاسية فقط". ولقاء كل هذا الغموض والتعقيد، يرى كشادة أن بارقة الأمل الوحيدة تتمثل في قدرة الدول ذات الصلة بالملف الليبي، على دفع الأطراف الليبية نحو تقريب وجهات النظر وتجاوز الوضع الراهن.