تشهد الساحة الليبية نشاطاً في المسارين العسكري والأمني من خلال سلسلة حثيثة من التقاربات بين القادة العسكريين والأمنيين، في وقت تراجع نشاط المسارين السياسي والدستوري بين مجلسي النواب والدولة للتوافق على قاعدة دستورية لإجراء الانتخابات خلال العام الجاري.
وبعدما اختتم قادة عسكريون وأمنيون اجتماعاً رفيع المستوى برعاية البعثة الأممية احتضنته العاصمة طرابلس، ليل الأحد الماضي، ضم قيادات بارزة في معسكري شرق وغرب البلاد، تستعد مدينة بنغازي لاحتضان اجتماع مماثل يضم ذات الشخصيات، خلال الأسابيع المقبلة.
وانتهى اجتماع طرابلس باتفاق المجتمعين على "دعم جهود إجراء انتخابات وتشكيل حكومة موحدة"، وكذلك "مواصلة العمل في طريق توحيد المؤسسات العسكرية من خلال رئاسات الأركان، وتوحيد المؤسسات الأمنية وباقي مؤسسات الدولة"، بحسب بيان اختتام الاجتماع.
وشدد المجتمعون على أن يكون الحوار "ليبياً – ليبياً وداخل الأراضي الليبية، ورفض التدخل الأجنبي في الشأن الليبي، والالتزام الكامل بكل ما نتج عن الحوار بين القادة العسكريين والأمنيين مع اللجنة العسكرية في اجتماعها الأول في تونس والثاني في طرابلس"، إضافة إلى عقد اجتماعهم المقبل في بنغازي خلال رمضان الجاري.
واللافت في اجتماع طرابلس أنه لم يقتصر على لقاء ممثلي لجنة 5 + 5 العسكرية المشتركة التي سبق وأن عقدت اجتماعاتها في طرابلس وبنغازي، بل ارتفع مستوى التمثيل في الاجتماع ليضم لأول مرة شخصيات من قادة أبرز التشكيلات المسلحة في البلاد الذين كانوا إلى جانب قادة الحروب التي شهدتها البلاد خلال السنوات الماضية، كآمر لواء طارق بن زياد، اللواء عمر امراجع، وآمر اللواء 128، العقيد حسن الزادمة، أبرز القوى العسكرية التابعة للواء المتقاعد خليفة حفتر.
في المقابل، شارك في الاجتماع قادة معسكر غرب البلاد وهم: المقدم محمود حمزة آمر اللواء 444، وآمر الكتيبة 301 عبد السلام الزوبي، ورئيس جهاز دعم الاستقرار عبدالغني الككلي، وآمر قوة مكافحة الإرهاب مختار الجحاوي.
كما ضم الاجتماع ممثلين مقربين من حفتر حلّوا لأول مرة في طرابلس، كمدير مكتبه الخاص اللواء خيري التميمي، وباسم الوعيشي الضابط المقرب من صدام نجل حفتر، بالإضافة لممثلين عن الحكومتين المتصارعتين، وزير الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية، عماد الطرابلسي، ووكيل وزارة الداخلية بالحكومة المكلفة من مجلس النواب، فرج قعيم.
وعلى الرغم من أنّ اجتماع طرابلس جاء لمواصلة ما تمت مناقشته في الاجتماع العسكري والأمني في تونس، منتصف الشهر الجاري، إلا أنّ الأكاديمي والباحث في الشأن السياسي أحمد العاقل، يصف انعقاد هذه الاجتماعات داخل البلاد وتحديداً في طرابلس وقريباً في بنغازي، بأنها "خطوة متقدمة في طريق نجاح خطة دولية يبدو أنها تهدف لتحقيق اختراق في جدار الأزمة الليبية خصوصاً في بعده العسكري والأمني المصمت لتوحيد القوى المتصارعة".
بدائل باتيلي
واعتبر العاقل، خلال حديث مع "العربي الجديد"، اليوم الأربعاء، أنّ تنشيط المسار العسكري والأمني على حساب المسار الدستوري بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة برعاية البعثة الأممية "قد يكون أحد أهم البدائل التي تحدث عنها المبعوث الأممي عبد الله باتيلي في خطته غير المعلنة".
ولا يزال توافق مجلسي النواب والدولة حول التعديل الدستوري متعثراً، فرغم إعلان رئاسة مجلس الدولة موافقته على التعديل الدستوري الذي أقرّه مجلس النواب، إلا أنه لا يزال عاجزاً أمام تسمية ممثليه في لجنة 6+ 6 (لجنة مشتركة من مجلس النواب والدولة يوكل إليها وضع القوانين الانتخابية)، بسبب اعتراض كتلة من أعضاء مجلس الدولة على قانونية الجلسة التي وافق فيها المجلس على التعديل.
وحثّ باتيلي مجلس الدولة خلال لقائه رئيسه خالد المشري، مساء الإثنين، على تسمية مجلس الدولة ممثليه للجنة 6+6، وجدد دعوته للمجلسين بضرورة الوفاء بالتزاماتهما "لإجراء الانتخابات ضمن إطار زمني واضح".
وقال المكتب الإعلامي للمجلس الأعلى للدولة، في بيان له، إنّ باتيلي أطلع المشري على نتائج اجتماع القادة العسكريين والأمنيين الأخير في طرابلس و"التأكيد على دور هذا المسار الداعم للعملية الانتخابية من خلال وضع خطط لتأمين الانتخابات".
وبحسب الباحث السياسي أحمد العاقل، فإنّ حديث باتيلي للمشري عن أهمية دور المسار العسكري في دعم الانتخابات، يكشف عن ملمح من ملامح خطة باتيلي. وأضاف: "باتيلي أعلن أنّ خطته قد تحتمل بدائل عن مجلسي النواب والدولة من أجل تيسير الوصول إلى أطر قانونية ودستورية لإجراء الانتخابات خلال العام الجاري، وتنشيطه للمسار العسكري يبدو أنه يهدف لخلق مسار موازٍ لمسار مجلسي النواب والدولة".
وحول ما سينبثق عن المسار العسكري، قال العاقل: "سيكون له الثقل الأكبر في اللجنة رفيعة المستوى التي تشكّل قوام خطة باتيلي، والتي يبدو أنها تسعى لسحب البساط من تحت المجلسين اللذين لن يبق لهما أي كلمة أو تأثير إذا توافق القادة العسكريون".
وذكّر العاقل بأنّ باتيلي تحدث منذ البداية عن أنّ إجراء الانتخابات لا يستلزم قوانين وأساساً دستورياً فقط، بل شدد على أهمية التهيئة للظرف الأمني، مشيراً إلى أن اجتماع طرابلس وبنغازي المقبل "ترجمة واضحة لمقصده (باتيلي) من التهيئة الأمنية".
ويعد تشكيل قوة عسكرية مشتركة من كافة القوى العسكرية في ليبيا، أبرز بنود لقاءات القادة العسكريين، فعقب لقائهم في تونس قدّم رئيس الأركان التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، محمد الحداد، إحاطة لرئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي، "عن الخطوات المتخذة لإنشاء قوة عسكرية مشتركة تضم أفراد الجيش من المناطق كافة؛ لتكون نواة لتوحيد المؤسسة العسكرية"، بحسب المكتب الإعلامي للمجلس الرئاسي.
دوافع الدعم الأميركي والأوروبي لجهود باتيلي
في مقابل ذلك، يرى الأستاذ بأكاديمية الدراسات السياسية والدبلوماسية فضل المغربي، أنّ تنشيط المسار العسكري جاء برغبة أميركية أوروبية لتحقيق مصالح في إطار دولي يتجاوز تفاصيل الأزمة في الملف الليبي، لافتاً إلى الدعم الأميركي والأوروبي لجهود باتيلي الذي يشرف على هذا المسار ويتبناه.
وفيما يتساءل المغربي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، اليوم الأربعاء، عن أسباب رغبة واشنطن والعواصم الأوروبية في إصلاح التصدعات والانشقاقات الليبية على الصعيدين السياسي والعسكري في هذا التوقيت، قال إنّ "توقيت الاهتمام الغربي بالملف الليبي يأتي ضمن بحثهم مواجهة مع روسيا التي أجبرتهم على البحث عن بدائل للطاقة الروسية، فليبيا أهم بديل اليوم ولكن الأمر يستدعي تنظيف ساحتها من الوجود الروسي وأعني مجموعة (فاغنر) تحديداً، وفي هذا الإطار تأتي أهمية تشكيل قوة عسكرية وجهتها المعلنة هي الجنوب، وقيادة سياسية موحدة يمكن من خلالها تمرير المصالح الغربية".
ويذكر المغربي بأنّ باتيلي يتحرّك لإنجاح خطته بالاستثمار في عدة أوراق، منها استمرار عدم توافق مجلسي النواب والدولة في حسم الأساس الدستوري للانتخابات واستمرار الخلاف الحكومي، لكنه يستدرك بالقول: "مثل هذه الأوراق لها وجه آخر قد يفشل كل مساعيه إذا ما اتفق المختلفون، فتقارب الخصوم العسكريين الذي كان مستحيلاً، أقرب منه تقارب المجلسين والحكومتين إذا ما شعروا بخطر الإقصاء، كما أنّ هدف المسار العسكري وهو تشكيل قوة عسكرية مؤلفة من أشد الخصوم أيضاً مسار مهدّد بالفشل، فكل ما لدى باتيلي هو جمع المليشيات في مليشيا كبيرة ذات تسليح أحدث، لكن تعدد رؤوسها وقادتها سيفشلها سريعاً فهم لا يقفون في صفّ بعضهم البعض".
ويلفت المغربي إلى وجود عامل آخر قد يعرقل مساعي باتيلي والعواصم التي تدعم خطه، متمثلاً في الحراك الروسي، وقال إنّ "الجميع يتحدث عن إخراج مرتزقة (فاغنر)، لكن الثقل الروسي لا يتركز في الجانب العسكري فقط، بل لها ثقلها في مجلس الأمن، ولها صوتها الذي يحبط أي قرار أممي لتحصين خطة باتيلي حتى وإن تمكّن من التمهيد لها عبر الأوساط العسكرية والسياسية، كما أنّ عواصم إقليمية قد تدعم أي موقف روسي كالقاهرة مثلاً"، مشيراً إلى قدرة موسكو على إحداث حراك سياسي في ليبيا مواز للحراك الأميركي الأوروبي.
والإثنين، زار وفد برلماني ليبي رفيع برئاسة نائب رئيس مجلس النواب، عبد الهادي الصغير، المقرّب من عقيلة صالح، موسكو، والتقى الممثل الخاص لرئيس الاتحاد الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا، نائب وزير خارجية روسيا ميخائيل بوغدانوف، في مقر وزارة الخارجية الروسية لـ"تبادل الآراء حول الوضع الحالي في ليبيا"، ومناقشة "مشاكل التسوية الشاملة للأزمة الليبية"، بحسب بيان للمتحدث الرسمي باسم مجلس النواب، عبد الله بليحق، مساء الإثنين.
وفيما أشار بليحق إلى أنّ اللقاء حضره السفير الروسي الجديد لدى ليبيا، أيدار أغانين، قال إنّ اللقاء ناقش "عدداً من القضايا المتعلقة بزيادة تطوير العلاقات الليبية الروسية، بما في ذلك الاتصالات البرلمانية الدولية".
والأحد الماضي، أعلن بوغدانوف عن قرب توجه السفير الروسي لدى ليبيا، أيدار أغانين، إلى العاصمة طرابلس، مشيراً إلى عزم موسكو استئناف عمل بعثتها الدبلوماسية في ليبيا بشكل كامل.
وفيما ذكر بوغدانوف بتعيين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أغانين سفيراً فوق العادة في ليبيا، نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، شدد على أهمية إعادة التمثيل الدبلوماسي الروسي في طرابلس، وفتح قنصلية عامة في بنغازي.