مؤتمر ميونخ للأمن.. الأوروبيون منشغلون في مواجهة تقدم روسيا في أوكرانيا وتباطؤ عسكرتهم
في النسخة الـ60 لـ"مؤتمر ميونخ للأمن"، والذي عقد بين الجمعة والأحد الماضيين، بدا واضحاً تغيّر نقاشات الأوروبيين، في ظل غياب روسيا عن مقعدها، وحضورها المكثف من جهة إثارة المخاوف.
الآفاق الملبدة جعلت النسخة الحالية أقل تفاؤلاً من نسخة "ميونخ" السابقة، والتي حملت آمالاً بأن يفرز "الهجوم الأوكراني المضاد" واقعاً آخر ضد موسكو. أما الآن، وعلى أعتاب عامين من الحرب، يجري عوض ذلك تسليط الضوء على تعزيز محاولة كييف الصمود في الجبهات الأمامية على تخوم دونباس، شرقي البلاد.
رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي، الذي تحدث بنظرة متشائمة، طالب الأوروبيين مجدداً بتسريع توريد الذخيرة إلى جيشه، وهو يعرف المعاناة الكبيرة أمام التقدم الروسي. إذ أثناء انعقاد المؤتمر وصلت السبت أخبار انسحاب الجيش الأوكراني وسقوط أفدييفكا، الواقعة على خط المواجهة في شرقي أوكرانيا.
بالطبع لم يكن الانسحاب وليد اللحظة، إذ كانت تقارير أمنية واستخبارية أوروبية قد حذرت من تهاوٍ في جبهات المواجهة مع روسيا. وهو ما يذكر الأوروبيين بأن استجابتهم لمطالب أوكرانيا على مدار العامين الماضيين لم تكن بمستوى التحدي، ما انعكس أيضاً في خطاب زيلينسكي شبه المتشائم.
تشاؤم أوروبي مبطن وسط تقدم روسي
ويعترف الأوروبيون على هامش "ميونخ" بأن دعم أوكرانيا بتلك الكثافة التي تمت بات ينعكس سلباً على مخازن جيوش بعضها. وآخرها ما أعلنه الجيش السويدي صباح اليوم الاثنين عن قرب نفاد الذخيرة، بسبب الدعم الكبير لأوكرانيا. وتتماشى عمليات الدعم مع بطء إعادة التسليح لدى بعض دول القارة، التي راهنت على إمكانية الحسم لمصلحة أوكرانيا. ويلاحظ الأوروبيون، واستناداً إلى تقارير استخباراتهم العسكرية، أن موسكو هي التي سارعت إلى تبني "اقتصاد الحرب"، ودخلت في عملية إعادة تسليح كبيرة، بحسب ما أوردته الاستخبارات العسكرية الدنماركية أمس الأحد. وفي هذا السياق ناقش الأوروبيون في ميونخ سد ثغرات التسلح، وسط عودة أجواء سباق تسلح بين الغرب وروسيا.
وفي الإطار نفسه أكد زيلينسكي أمام "ميونخ" أن بلده الذي تعرض لغزو روسي قبل عامين لا يستطيع الاستمرار في الصمود دون أن يفي الغرب بوعوده بتأمين المال والسلاح والذخيرة. فكييف تعرف أكثر من غيرها أن "الهبة" الإعلامية والسياسية التي شهدتها أوروبا بداية الغزو في فبراير/شباط 2022 لم تعد بالمستوى ذاته. و"مؤتمر ميونخ" نفسه شهد في 2007 تحذيرات من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول ضرورة أخذ الغرب مشاغل بلده الأمنية في القضية المتعلقة بحلف شمال الأطلسي، ووضع أوكرانيا المستقبلي على محمل الجد، حتى قبل أن تتدخل موسكو في 2014 وتضم شبه جزيرة القرم، وتدعم الأقلية الناطقة بالروسية في شرقي أوكرانيا.
زيلينسكي استغل حضوره، بعد التوقيع الثنائي مع فرنسا وألمانيا على ضمانات أمنية ودفاعية، لمناشدة الأوروبيين على وجه الخصوص أن يتذكروا أن بلاده "لا تحارب فقط من أجلها. إنها حرب أوروبا. إنها حرب الديمقراطية".
بالطبع لم يتغير الكثير في مواقف الأوروبيين من روسيا، بل يدعو بعضهم إلى انتهاج سياسات أكثر تشدداً. لكن المسألة التي تؤرق القارة اختزلها قول زيلينسكي إن "يوتين يمكن أن يخسر". فقضية "يمكن" لم تكن مطروحة في نسخة المؤتمر السابق، في ظل سيادة "الجزم بالخسارة" حينها.
واقع جديد وشبح ترامب
في مقابل تسريع موسكو عجلة إنتاجها العسكري يعترف الأوروبيون بأنهم عاشوا "على المسلمات قبل 30 سنة بأن السلام حاصل ومفروغ منه"، وفق تعبير نائب المستشار الألماني أولاف شولتز، روبرت هابيك. الذي يرى أن أوروبا "تعيش واقعاً جيوسياسياً وأمنياً مختلفاً عما كانت عليه الحال قبل 2022"، مؤكداً أن القارة "كان عليها أن تستثمر الكثير في إنتاج الأسلحة المشتركة". واعترف هابيك بأن دول القارة بحثت عن مصالحها بصورة أحادية "معتقدة أن ما حدث من غزو مجرد قوس سيجري إغلاقه في نهاية المطاف". ويأمل هابيك بأن لا تناقش النسخة القادمة من ميونخ تكثيف إنتاج الأسلحة، "فهذا أمر يجب القيام به الآن".
إلى ذلك، أشارت صحيفة دير شبيغل الألمانية، أمس الأحد، إلى الواقع السيئ الذي تعيشه أوكرانيا "ففي النسخة السابقة لمؤتمر ميونخ كانت الآمال كبيرة بهجوم مضاد لاستعادة أراض احتلتها روسيا، وربما حتى شبه جزيرة القرم، وبعد مرور عام (من تلك الآمال) يقاتل الأوكرانيون فقط للحفاظ على الخطوط الأمامية".
ألقت تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن "الأطلسي" والدفاع عن أوروبا بظلالها الثقيلة على الأوروبيين، الذين أكدوا في مؤتمر ميونخ زيادة دعم أوكرانيا حتى بدون دعم أميركي، وبتسريع مشترك لعجلة اقتصاد الحرب، واستعادة التصنيع العسكري لتلبية حاجات القارة. ونقلت "دير شبيغل" عن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون قولها إن ما قاله ترامب "يجب أن يؤخذ على محمل الجد". وتطرقت "لوموند" الفرنسية في نسختها المسائية فجر اليوم الاثنين إلى الواقع المتغير في أوروبا، ومساعي القارة "لجعل الدفاع ضد روسيا هو الأولوية". ونوهت الصحيفة بصورة خاصة باتفاقية برلين وباريس لمنح أوكرانيا ضمانات بعيدة المدى "بعد تزايد الشعور بالخطورة في العاصمتين، ليس فقط لناحية مساعدة أوكرانيا للدفاع عن نفسها، بل أيضاً لحماية أوروبا". ولاحظت "لوموند" تغير تفكير ولهجة إيمانويل ماكرون من شخص يدعو إلى "عدم استفزاز روسيا" إلى القول إن "روسيا فلاديمير بوتين أصبحت طرفاً فاعلاً ومنهجياً في زعزعة الاستقرار في العالم". الأمر عينه ينسحب على المستشار الألماني شولتز، الذي اتُّهم بالتردد في بداية الحرب الأوكرانية، ليقول أخيراً: "على بوتين وجنرالاته في موسكو أن يفهموا أننا، أقوى تحالف عسكري في العالم، قادرون على الدفاع عن كل متر مربع من أراضينا. ولهذا السبب يتعين علينا أيضاً أن نعمل على تعزيز الركيزة الأوروبية لحلف شمال الأطلسي، وأيضاً فيما يتصل بالردع".
وبغض النظر عما إذا كان ترامب سيعود إلى البيت الأبيض أم لا، فأوروبا تعترف بأنها تواجه واقعاً جديداً. فالنخبة السياسية قلقة أيضاً من شوارعها، أو ناخبيها، الذين يمكن أن يحولهم إرهاق الحرب إلى معارضين لاستمرار العسكرة في قارتهم. أدرك ذلك وزير خارجية أوكرانيا دميترو كوليبا، عندما قال في ميونخ السبت الماضي، إنه من الجيد سماع النغمة الجديدة عند ساسة القارة "لكن الآن نحتاج فقط إلى الوعي نفسه لنشره بين الناخبين في هذه البلدان".