تمر اليوم الذكرى الـ13 على اندلاع الثورة التونسية، في 17 ديسمبر/ كانون الأول من عام 2010، عندما أقدم الشاب محمد البوعزيزي من محافظة سيدي بوزيد على إضرام النار في نفسه، احتجاجاً على الظلم، وعلى الظروف الاجتماعية الصعبة، لتفتح هذه الخطوة تظاهرات واسعة في مناطق مختلفة من البلاد، أسفرت عن إسقاط نظام زين العابدين بن علي.
ومنذ اللحظات الأولى للاحتجاجات، خرج التونسيون في كل المحافظات يرفعون شعار "شغل حرية كرامة وطنية"، إلى أن نجحوا في إسقاط نظام زين العابدين بن علي، بعد فراره من البلاد في 14 يناير/ كانون الثاني من عام 2011.
ومع مرور هذه السنوات على الثورة، شهدت تونس والمنطقة برمتها تطورات دراماتيكية، لعل أبرزها الانقلابات التي حصلت في أكثر من بلد، والخلافات التي تحولت إلى حروب أهلية، ولم تسلم تونس، مهد الربيع العربي، من موجة الانقلابات، حيث أقدم الرئيس التونسي قيس سعيّد، المنتخب ديمقراطياً إثر وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي، على الانقلاب على الدستور في 25 يناير/ كانون الثاني من عام 2021، وقام بحل البرلمان وتعطيل الدستور، وألغى العديد من المؤسسات، ثم كتب دستوراً بنفسه، وأقصى الأحزاب من الانتخابات، وزجّ بمعارضيه في السجن، وأقام انتخابات برلمان جديدة قاطعها حوالي 90 بالمائة من الناخبين.
ومع كل هذه التطورات، تبقى الأسئلة في الشارع التونسي حول شعارات الثورة مطروحة، ما المتبقي منها؟ وهل هجر التونسيون شوارع الاحتجاج ولماذا؟ وهل أُقفل قوس الثورة والحلم بالديمقراطية نهائياً أم أنها مجرد انتكاسة مرحلية ستنتهي حتماً؟
في محاولة للرد على هذه الأسئلة، يرى عضو هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين المحامي سمير ديلو، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "ما تحقق هو أن الثورة أصبحت حقيقة لا مفر منها، وشعارات الثورة دائماً حاضرة بصيغة من الصيغ"، مشيراً إلى أن "انتكاسة الحقوق والحريات هي المشهد الأبرز اليوم، ولكنه ليس الأخطر، فما هو أخطر من ذلك هو أنه تم تحطيم كل ما جرى بناؤه بما يخص المؤسسات، كما جرى تحطيم كل قواعد العيش المشترك وعلوية القانون، وتوجهنا نحو الرأي الأوحد، وبلغنا درجة حكم الفرد".
من جانبه، يعتبر الباحث في علم الاجتماع، ماهر حنين، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "لا يمكن القول إنّ مطالب 17 ديسمبر/ كانون الأول لم تعد لها أي دلالة، لأن هذا مخالف للتاريخ، وإن قلنا إنها حية كذلك فهذا سيكون فيه نوع من الرومانسية، لذلك فإن المطالب تظل نفسها في العناوين الكبرى، أي التنمية والتشغيل والحرية، ولكنها عرفت مراحل مختلفة من الحماسة، أو التعبئة الاجتماعية والحزبية والنقابية، ففي فترة ما كانت المطالب السياسية هي الأعلى، وغطت على المطالب الاجتماعية، وفي فترة أخرى حصل العكس، وأحياناً كانت المطالب المتعلقة بالجانب الأمني ومقاومة الإرهاب وعودة الدولة القوية هي الطاغية، وبالتالي هناك ديناميكية متواصلة".
وبين أن "المطالب السياسية الحقوقية محاصرة، والتعبير عنها ضيق، ومحدودة التأثير، ليس فقط في الشارع بل حتى على مستوى النخب"، مؤكداً أنه "لا يمكن الحديث عن نهاية حقبة مطالب 17 ديسمبر/ كانون الأول، بل نتحدث عن تحولات في التعبيرات (...) نسق التعبير هو الذي تغير" .
وأضاف أن "الوضع الحالي ليس ثابتاً بل يتحرك، و13 عاماً في تاريخ الحركة الثورية ليس عمراً طويلاً، وهناك حالة من حالة من الإجهاد والتعب الحقيقي، خاصة في أوساط الطبقة الوسطى وفي الأطر الحزبية والمدنية التي كانت تنظم الحراك الاجتماعي والمدني"، مبيناً أن "هناك حالة من الخلاص الفردي، وحالة من التعب واليأس بالنسبة للمطالب الاجتماعية، الشباب المعطل والمضطهدين واليائسين"، مضيفاً أن هناك "حالة من الإحباط الحقيقية".
وأوضح الباحث أن "المناخ العام السياسي لا يشجع على أشكال التنظيم والتعبير العلني، والخوف كشعور فردي عندما يكون جماعياً يصبح له معنى سياسي (...) هناك حالة إجهاد وصمت وانسحاب، مقارنة بالصخب الذي كان موجوداً بسلبياته وإيجابياته من قبل، فالفضاء العام صامت، حيث لا يوجد اختلاف ولا جدل، ولكن عبر التاريخ لا يمكن أن يتواصل هذا، فالحياة الاجتماعية تطرح عليك باستمرار ملفات غير متوقعة، كالقضية الفلسطينية أو مشكلة العنصرية تجاه المهاجرين في جنوب الصحراء، ولكن المجتمع حالياً بقدراته الذاتية غير قادر على قلب موازين القوى".
وفي محاولة لفهم انسحاب النشطاء السياسيين والمدنيين تدريجياً من الفضاء العام في تونس، نظم المعهد العربي للديمقراطية، الأربعاء الماضي، لقاءً فكرياً بمشاركة عدد من السياسيين والمفكرين.
ويقول مؤسس المعهد خالد شوكات، في حديثه مع "العربي الجديد"، إنّ "ثمة في الواقع ما يشير إلى هذه الظاهرة اللافتة للانتباه، والتي تجلّت ملامحها تدريجياً منذ 25 يوليو/ تموز من عام 2021، والمتمثلة في انسحاب النشطاء السياسيين والمدنيين تدريجياً من الفضاء العام، في مستويين على الأقل، الأول المستوى الاحتجاجي، فخلافاً لما كان سائداً طيلة ما يسمى بالعشرية، لم تعد المظاهرات والتظاهرات ذات الطابع الاحتجاجي والمطلبي الاجتماعي جزءاً من الحياة اليومية التونسية، إذ أصبح عدد الذين يخرجون إلى الشارع محدوداً في العدد والانتشار، أما المستوى الثاني فهو المتعلق بنشاط الأحزاب السياسية وفعاليات المجتمع المدني، إذ يُلاحظ التراجع الكبير في حضور هذه الأجسام الوسيطة في حياة المواطنين، حتى أطلق البعض صيحة فزع محذراً من موت السياسة، واغتيال الحياة المدنية، وسقوط البلاد في حالة فراغ قد تكون آثارها وخيمة، وكلفتها باهظة في السنوات القادمة".
ويفسر شوكات ذلك بعوامل عدة مركّبة، منها ما يتصل بطبيعة النظام الجديد الذي دفع الناس إلى الخوف، واستحضار أجواء النظام التسلّطي الذي كان حاكماً قبل الثورة، ومنها ما يرد إلى الشخصية الجمعية التونسية، حيث تحضر النظرة البراغماتية أو الواقعية، وهو ما يجعل البعض يرى في الأمر مجرد انسحاب تكتيكي للتونسيين حتى تنضج لحظة التغيير، وفي كل الأحوال فإن الثورة فقدت بريقها وجاذبيتها وقدرتها على تعبئة الناس في المعارك العامة"، على حد تعبيره.