منذ اختراق اليمين المتطرف الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بقيادة جان ماري لوبان، في رئاسيات عام 2002، كان واضحاً للعديد من المراقبين، سواء في فرنسا أو على المستويين الأوروبي والغربي، أن الاستثناء قد يتحوّل إلى قاعدة، ما لم تتدارك فرنسا الأمر.
لكن باريس تجاهلت تنامي التيارات اليمينية المتطرفة، بل إن رئيسيها، السابق نيكولا ساركوزي (2007 ـ 2012)، والحالي إيمانويل ماكرون (2017 وحتى الآن)، اقتربا أكثر من الخطاب اليميني المتطرف، لتتحوّل معه رئاسة الاشتراكي فرانسوا هولاند (2012 ـ 2017) إلى استثناء.
وفي خضمّ هذه التحوّلات، وتراجع لوبان الأب لمصلحة ابنته مارين، رسّخت فرنسا قواعدها السياسية بين يمينين، لا يسار بوسعه خرقهما وفقاً لاستطلاعات رأي أخيرة: يمين يوصف بـ"الوسطي" بقيادة ماكرون، ويمين متطرف بقيادة لوبان، وقد حاول إريك زيمّور الحلول مكانها.
تطوّر أرقام لوبان
تخوض لوبان الانتخابات الرئاسية المقررة جولتها الأولى، غداً الأحد، للمرة الثالثة، بعد حلولها ثالثة في رئاسيات 2012، مع نيلها 17.9 في المائة من نوايا الناخبين وخروجها من الدور الأول.
وفي رئاسيات 2017، نالت 21.3 في المائة من أصوات الناخبين، لتواجه ماكرون في الدور الثاني، الذي خسرته مع حصولها على 33.9 في المائة من أصوات الناخبين.
غير أن الهزيمة في 2017، لم تكن خسارة فعلية، إذا ما قورنت بنتائج جان ماري لوبان في الدور الثاني من رئاسيات 2002، حين نال 17.79 في المائة.
تُفسّر النتائج أن اليمين المتطرف نجح في رفع مستوى مؤيديه بنسبة الضعف في غضون 15 عاماً فقط، لا بل إن المرشحين المعارضين له تبنّوا عدداً من شعاراته، المتعلقة بالهجرة والجنسية والتعامل مع المهاجرين والمتحدرين من أصول مهاجرة.
وبعد أشهر من بروز أسماء عدة لمنافسة ماكرون، من اليمين واليسار، مثل فاليري بيكريس وإريك زيمّور، بدأت استطلاعات للرأي تميل لثنائية ماكرون ـ لوبان في الدور الثاني من الرئاسيات، المقررة في 24 إبريل الحالي.
ومنح استطلاع مؤسسة "إيلاب"، الصادر أمس الجمعة، والمنشور في موقع "بي أف أم تي في" وصحيفة "إكسبريس"، بالإضافة إلى توزيع "الشركة الفرنسية للاتصالات" نتائج الاستطلاع عبر رسائل نصيّة إلى زبائنها، ينال ماكرون 26 في المائة من نوايا الناخبين، في مقابل 25 في المائة للوبان، غداً الأحد.
ضاعف اليمين المتطرّف عدد مناصريه في غضون 15 عاماً فقط
ومع أن لوبان تلقّت ضرباتٍ عدة في السنوات الماضية، بدءاً من علاقتها المتردّية مع والدها، التي وصلت إلى القضاء، ثم انفكاك ابنة أختها، ماريون ماريشال (تخلّت عن اسم لوبان) عنها، بالإضافة إلى قيامها بعملية تطهير جزئية داخل حزب "الجبهة الوطنية" ثم تغيير اسمه في عام 2018 إلى "التجمّع الوطني"، إلا أنها نجحت في الصمود، بل وتكريس نفسها مرشحة قوية للرئاسيات الفرنسية.
وهو ما حدا بصحيفة "ليبراسيون" الفرنسية، في عددها الصادر في 31 مارس/آذار الماضي، للتطرّق إلى مسيرة لوبان. وتحت عنوان "لوبان هنا"، ذكرت الصحيفة أن "لوبان باتت أخطر من أي وقتٍ مضى".
واعتبر الكاتب نيكولا ماسّول، في مقال في العدد نفسه أن "لوبان خاضت حملة انتخابية هادئة ومن دون ضجيج"، مقارنة بالحملة الصاخبة لزيمّور، الذي تدنّت أرقامه بشدّة بعد انطلاقة صاروخية في الخريف الماضي.
فوز لوبان ليس مستحيلاً
وفي مقالٍ له، يوم الإثنين الماضي، اعتبر روجر كوهين في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، أن لوبان ركزت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي بدأ في 24 فبراير/شباط الماضي، على ارتفاع الأسعار في فرنسا، خصوصاً ارتفاع سعر الغاز بنسبة 35 في المائة عن العام الماضي.
وفي الصحيفة نفسها، اعتبر الأستاذ في العلوم السياسية في "معهد الدراسات السياسية" في باريس نيكولا تينزيه، أنه لا يمكن الاعتقاد أن ماكرون سيفوز حتماً، مضيفاً: "أمام احتمال ارتفاع عدد المتغيّبين عن الاقتراع، وهو أمر وارد الحصول، فضلاً عن الغضب الشعبي على الرئيس، من الممكن أن نصبح أمام مفاجأة حقيقية"، مردفاً: "فكرة فوز لوبان ليست مستحيلة".
بدورها، ذكرت الكاتبة في صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، أنجيليك كريسافي، في مقال بعنوان "نهضة مارين لوبان"، أنها تلمس مؤشرات على تبدّلات جذرية في صفوف الناخبين.
وتطرقت في تقريرها، الصادر يوم الإثنين الماضي، إلى مواطنة فرنسية تسكن في شمال مدينة مرسيليا الجنوبية الساحلية. ونقلت كريسافي عن المواطنة إليزابيث، البالغة من العمر 68 عاماً، إعلانها أنها ستنتخب لوبان، بعد تصويتها سابقاً لمرشحين يساريين.
وعللت المواطنة ذلك بالقول: "اعتاد الناس القول إن مارين مقرفة، لكنهم يدركون الآن أنها ليست كذلك. سياسيون آخرون يأخذون أفكارها، والجميع يتحدث مثلها الآن".
تركّز لوبان في حملتها على ارتفاع الأسعار في الداخل الفرنسي
من جهته، ذكر الأستاذ في "معهد الدراسات السياسية" في باريس برونو كوتريه، في "ذا غارديان" أن "زيمور لم ينجح في تدمير لوبان، بل سمح بتقوية موقفها. تطرّف زيمّور جعل من لوبان أكثر قبولاً لدى الناخبين".
ولا يمكن هنا إبعاد رسائل العسكريين الفرنسيين التي انتشرت في العام الماضي عن المعركة الرئاسية، تحديداً لدعوتهم إلى "الدفاع عن الوطن". العسكر الفرنسي بات أقرب إلى ناخب غير صامت في انتخابات لا يبدي رأيه فيها عملياً منذ عام 1958.
وبعد فترة من اعتبار لوبان، مثل معظم الأحزاب والتيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا، في صفّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تحدثت المرشحة الرئاسية، يوم الإثنين الماضي، إلى قناة "بي أف أم" الفرنسية، مُدينة "البربرية الحقيقية"، وداعية إلى "إدانة المسؤولين بشدة أخلاقياً ودبلوماسياً"، عن مجزرة مدينة بوتشا الأوكرانية.
وشدّدت على أنها أبدت تضامنها "مع الأوكرانيين رافضة الحرب الروسية عليهم"، لكنها جددت دعوتها للحوار مع روسيا، على اعتبار أنها "قوة عظمى ولن تختفي عن الخريطة".
وأضافت: "على الرغم من الخلافات العميقة للغاية في ما يتعلق بسلوك روسيا، إلا أنه يجب أن نحاول منعها من الوقوع في أحضان الصين، كي لا تهددا معاً ديمقراطياتنا".
لكن لوبان، التي اقترض حزبها مبلغاً بقيمة 9 ملايين يورو من مصرف روسي في عام 2014 من أجل تمويل حملة انتخابية محلية، وفقاً لصحيفة "ذا غارديان"، اعتبرت أن ماكرون الذي اتهمها بالارتباط السياسي مع بوتين "مرعوباً".
وأضافت، في كلمتها أمام آخر تجمّع انتخابي عقدته في بيربينيان، جنوبي فرنسا، أول من أمس الخميس، أنها دانت الغزو الروسي لأوكرانيا، معتبرة أن ماكرون "متفاجئ" منها.
ومع أن لوبان لم تتغيّر كثيراً في السنوات الخمس الماضية، إلا أن تراكم الأزمات التي عصفت بفرنسا وأوروبا في السنوات الأخيرة، مثل تفشي وباء كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا وارتفاع أسعار السلع، بالإضافة إلى تفرّدها بقيادة "التجمّع الوطني"، جعلها على مشارف تحقيق مفاجأة حقيقية في الرئاسيات، ستُغيّر معها فرنسا إلى الأبد، وتقضي على "الجمهورية الخامسة" التي أرسى أسسها الجنرال شارل ديغول في عام 1958، لمصلحة "جمهورية سادسة" مجهولة المعالم ومستقبلها غامض.