اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أول من أمس الخميس، "مواجهة الشارع بدلاً من وكالات التصنيف"، بحسب تعبيره، مستخدماً مجدداً المادة 49.3 من الدستور، لتمرير مشروع إصلاح نظام التقاعد المثير للجدل، ورفع سن التقاعد في فرنسا من 62 إلى 64 عاماً، من دون اللجوء إلى تصويت البرلمان.
فبعد 6 سنوات من الجدل، منذ وصوله إلى الإليزيه في 2017، طوى ماكرون، أخيراً، صفحة "إصلاح التقاعد" بطريقة "آمنة" بالنسبة لمشروعه "الإصلاحي"، عوض المجازفة بأصوات البرلمان الذي لم تحسمه كتلة نواب "الجمهوريين" (اليمين) لصالحه.
انتصار لماكرون بطعم الخسارة
ويرى متابعون أن انتصار ماكرون في هذه المعركة جاء بطعم الخسارة، ومختلفاً عما كان تمكن من تمريره، منذ أن كان وزيراً للاقتصاد في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند، في إطار ما يعرف بخطة "إصلاح النموذج الاجتماعي"، التي أصبحت عنواناً لسياساته الاقتصادية الاجتماعية. لكن آخرين، يرون عكس ذلك.
فشل ماكرون في ضمان أصوات "الجمهوريين" في البرلمان
إذ بعد توالي المشاريع التي تحمل بصمة ماكرون، أو تتشابه مع طرحه، منذ "قانون ماكرون" حول تكافؤ الفرص وتنشيط النمو (2015 حين كان وزيراً للاقتصاد)، ثم قانون الخمري (نسبة لوزيرة العمل ميريام الخمري بحكومة مانويل فالس عام 2016)، المخصص لإصلاح قانون العمل، والذي ووجه بتعبئة شعبية واسعة (مرّر عبر المادة 49.3)، ثم "إصلاحات" ماكرون منذ وصوله إلى الرئاسة لـ"تحرير سوق العمل"، ينظر اليوم إلى مسار ماكرون من قبل مؤيديه، كضرورة إذا ما أريد لفرنسا البقاء قوة محركة رئيسية لأوروبا.
هاتان الوجهتان المتناقضتان لا تمنعان احتساب نسب الربح والخسارة، بعد واقعة الخميس، مع اعتبار اليمين المتطرف الفرنسي أكبر الرابحين من اعتماد القانون من دون غطاء برلماني.
وعلى وقع الهتافات المستهجنة في البرلمان الفرنسي الذي كان يتحضر للتصويت، أعلنت رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن، عصر الخميس، قرار تمرير مشروع إصلاح نظام التقاعد من دون تصويت في الجمعية الوطنية عبر اللجوء إلى الصلاحيات الدستورية.
وعلى الفور، ردّت النقابات الفرنسية التي ندّدت بـ"إنكار للديمقراطية"، بالإعلان عن يوم تاسع من الإضرابات والتظاهرات الخميس المقبل، علماً أنها كانت كثّفت تظاهراتها الأسبوعية منذ يناير/ كانون الثاني الماضي اعتراضاً على المشروع.
وخرجت أمس الجمعة تحركات معترضة في الشارع، مع استمرار الإضرابات في قطاعات عمّالية عدة. وكانت الشرطة قد اعتقلت مساء الخميس 301 متظاهر في فرنسا، بينهم 258 في باريس، بحسب وزير الداخلية جيرار دارمانان، بعدما خرجت تظاهرات واسعة احتجاجاً على القرار.
وكان يوم أول من أمس قد شهد اجتماعات واسعة عقدها ماكرون مع الحكومة وفريقه الاستشاري وخبراء، حيث جرى احتساب الأصوات في البرلمان مرات عدة، ليكتشف الرئيس الذي يملك أغلبية ضئيلة في البرلمان إخفاقه في الحصول على الأصوات المطلوبة لتمرير المشروع.
أغلبية مفقودة في البرلمان
وكان المشروع قد مرّ في الشيوخ (195 مع مقابل 112 ضد) حيث الأغلبية يمينية، لكن نواب "الجمهوريين" في الجمعية الوطنية كانوا منقسمين حول المشروع. وبعد موافقة "الشيوخ" السبت، تحوّل المشروع إلى لجنة فحص مشتركة (شيوخ ونواب) وافقت على التعديلات، ثم صادقها "الشيوخ" مجدداً.
إلا أن عقبة البرلمان، حيث 30 أو 35 نائباً فقط من "الجمهوريين" (من أصل 61)، كانوا مستعدين للتصويت لصالح المشروع، جعلت حكومة بورن تختار عدم المغامرة. ويملك معسكر ماكرون 250 نائباً، ويحتاج إلى 287 صوتاً (573 عدد نواب البرلمان الحالي) للحصول على الأغلبية المطلقة التي تسمح بتمرير القانون.
تواجه الحكومة الفرنسية الآن مقترحات مختلفة لحجب الثقة
وظلّ ماكرون حتى بداية الأسبوع الحالي يؤكد أنه يريد تصويتاً في البرلمان. لكن بورن دافعت مساء الخميس عن قرار اللجوء للصلاحيات الاستثنائية، عبر شاشة "تي أف 1"، معتبرة أنه "لم يكن ممكناً المغامرة بمصير إصلاح أساسي لحماية نظامنا التقاعدي".
ويُعتبر اللجوء إلى المادة 49.3 نكسة في رأي محللين سياسيين لما واجهه هذا القانون تحديداً من جدل ونفور شعبي، رغم أنه قد تمّ اعتماد المادة مئات المرات من قبل الحكومات الفرنسية السابقة. كما أن كل أطراف المعارضة انتقدت قرار بورن. واعتبرت رئيسة كتلة نواب اليمين المتطرف مارين لوبان، أن القرار "فشل ذريع لهذه الحكومة ولماكرون".
وفيما تواجه الحكومة الفرنسية الآن مقترحات مختلفة لحجب الثقة، سيكون على نواب أقصى اليسار وأقصى اليمين أن يتوافقوا، كما سيحتاجون إلى تصويت "الجمهوريين"، لكن رئيس الحزب إريك سيوتي قال إن نواب الحزب لن يصوتوا على أي مشروع لحجب الثقة.
وأعلن "التجمع الوطني" أنه سيصوت "على جميع الاقتراحات لحجب الثقة"، علماً أنه بالإضافة إلى اليمين المتطرف، أعلن النائب عن حزب الخضر جوليان بايو، الذي ينتمي إلى ائتلاف الأحزاب اليسارية (نوبس)، أنه سيقدم اقتراحاً لحجب الثقة "عابراً للأحزاب"، متهماً الحكومة بأنها "مستعدة لإشعال النار وإراقة الدماء في البلاد".
كما أن بعض نواب "الجمهوريين" المتمردين أعلنوا أنهم قد يخرجون عن خط الإجماع الرسمي على مستوى حزبهم، بحسب النائب عن الحزب أوريليان برادييه. من جهتها، دعت رئيسة كتلة "النهضة" (حزب ماكرون) في الجمعية الوطنية أورور بيرجي، وزير الداخلية، إلى "تعبئة أجهزة الدولة لحماية نواب" الأغلبية.
وفيما تتبادل الحكومة والمعارضة الاتهامات بشأن دفع البلاد إلى العنف، ينظر بشكل واسع إلى قرار ماكرون تمرير المشروع من دون تصويت البرلمان، على أنه يأخذه وفريقه إلى مزيد من العزلة، في وقت لا يزال أمامه أكثر من 4 سنوات في السلطة. حتى إن مسؤولاً في المجموعة الرئاسية في البرلمان اعتبر في تصريح لوكالة "فرانس برس" أنه يجب حلّ الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة.
وقال برونو بالييه، الباحث السياسي في معهد الدراسات السياسية في باريس، لوكالة "رويترز"، إن "هذا الإصلاح يملك كل مقومات زيادة أصوات اليمين المتطرف"، موضحاً أن من سيتحمل العبء الأكبر من الإصلاح "هم الفرنسيون من الطبقة الوسطى الدنيا، الذين يشعرون أصلاً بأنهم أكبر الخاسرين من العولمة، تماماً كما شعر البريطانيون قبل بريكست أو الأميركيون الذين صوّتوا لدونالد ترامب".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)