توالت في الأيام الأخيرة سلسلة تحركات ولقاءات ومواقف أميركية ودولية تقاطعت عند ما يبدو، ظاهرياً على الأقل، أنه توجّه "جدّي" نحو مخرج دبلوماسي لحرب غزة وما بعدها. وزاد من الاهتمام بها أنها ترافقت مع إشارات وتحركات أميركية وإسرائيلية أُدرِجَت في خانة السعي لعزل رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سياسياً "والتعجيل بمرحلة ما بعده" كضرورة للانتقال إلى الحلول الشاملة.
اتصال بين بايدن ونتنياهو
وكان التحرك الأميركي الأبرز، اتصال الرئيس الأميركي، جو بايدن، بنتنياهو، أمس الجمعة، بعد انقطاع دام "حوالى شهر ونفاد صبر الرئيس منه"، لمفاتحته بحلّ الدولتين الذي رفضه نتنياهو علناً وبنبرة لا تخلو من التحدي، وكأنه استشعر بداية استهدافه، خصوصاً أن طرح هذا الموضوع من قبل البيت الأبيض تزامن مع تنامي الخلافات داخل الحكومة الإسرائيلية، وخروج أصوات فيها تدعو إلى وقف المراهنة على مواصلة الحرب لاستعادة الأسرى ووجوب تخلي نتنياهو عن أوهامه في هذا الصدد، وكأن فيها صدىً لما يتردد في واشنطن، بعد أن تبيّن انسداد الأفق العسكري للحرب، كذلك تزامن مع تصاعد ضغوط الكونغرس في هذا الاتجاه، فضلاً عن تزايد النفور من رئيس الحكومة الإسرائيلية في أوساط النخب السياسية والإعلامية، وبالتحديد اليهودية منها، التي وجهت انتقادات قاسية للرئيس بايدن "لتهاونه" مع هذا الأخير.
ودخل الكونغرس على الخط، الأسبوع الماضي، حيث صوّت مجلس الشيوخ على مشروع قرار يقضي بتكليف وزارة الخارجية إعداد تقرير في غضون شهر عما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت انتهاكات لحقوق الانسان في أثناء عملياتها العسكرية في غزة، بحيث يُصار إلى وقف أو تقييد تزويدها بالأسلحة، ورغم التصويت على عدم تمرير القرار، كما كان متوقعاً، بأكثرية 72 ضد 11، إلا أن وصوله إلى مرحلة طرحه على التصويت في المجلس كان سابقة تنطوي على رسالة إلى نتنياهو الذي كان يستقوي بالكونغرس ويقاتل بسيفه ويتحدى الرئيس، كما فعل مع أوباما في 2015.
ولا يقلّ أهمية في هذا المجال ما جرى وتردّد على هامش أعمال منتدى دافوس الاقتصادي، في اليومين الأخيرين، ولا سيما تأكيد وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، استعداد المملكة للتطبيع مع إسرائيل بشرط "تحديد المسار نحو الدولة الفلسطينية وبصورة غير قابلة للارتداد عليها"، علماً أن إسرائيل سبق أن ارتدّت عن مسار أوسلو الذي كان مساره وسقفه الزمني محددين.
وكذلك كان من الأهمية بمكان لقاء الوزير السعودي نظيره الإيراني في دافوس، حيث شملت محادثاتهما التطورات الفلسطينية، ولوحظ أن الاجتماع واكبه تواصل بين طهران وإسلام آباد لتبريد الوضع بينهما، وترافق مع خفض التصعيد من جانب حزب الله، بالإضافة إلى دعوة صينية "لضمان أمن الممرات المائية"، في إشارة إلى عمليات الحوثيين في البحر الأحمر، فضلاً عن مناشدة روسية لحماس لحل قضية الأسرى.
ما مدى جدية بايدن؟
وتظهر هذه التحركات كأن في الأمر سعياً لحجز مقعد على طاولة حل تقوم واشنطن بهندسته، بعد أن ساد الاعتقاد في الأشهر الثلاثة الماضية بأن إدارة بايدن تركت لنتنياهو المضي في حربه على غزة من غير تحديد سقف زمني، لأنها لا ترغب في الاشتباك معه لأسباب تتعلق بقناعات الرئيس الشخصية وحساباته الانتخابية وأولوياته الخارجية الراهنة. وتعززت هذه الخلاصة بعد عودة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، من جولته الأخيرة في المنطقة، التي بدت أنها انتهت كما بدأت من جهة عدم احراز تقدم يذكر، حتى في قضايا حماية المدنيين وزيادة المعونات الإنسانية.
وتلبّدت الأجواء أكثر في الأسبوعين الأخيرين بعد التهاب الوضع في البحر الأحمر وارتفاع حرارة المواجهة على الحدود اللبنانية، ما زاد المخاوف من احتمال توسّع رقعة الحرب في المنطقة، الذي رجحت كفته بعد الضربات العسكرية الإيرانية ضد مواقع في سورية والعراق وباكستان، وردّ الأخيرة.
لكن الأجواء تغيرت، وبايدن ترك الانطباع بأنه جدّي في موضوع الحل السياسي، وذلك ليس من باب الصحوة على الحقوق الفلسطينية، بل من باب الاعتراف بالواقع العنيد على الأرض. فمن جهة، وصلت الإدارة إلى قناعة متأخرة ومكلفة بأن الحسم العسكري في غزة أصبح غير ممكن، ولا بد بالتالي من مخرج سياسي يقوم على مقايضة بين الرهائن ووقف الحرب، مع ترتيب صيغة لانسحاب رمزي لقيادات من حماس، وفق ما ذكرته بعض المعلومات التي قد لا تكون أكثر من عملية جسّ نبض.
ومن جهة ثانية، وهذا الأهم، كشفت عملية "طوفان الأقصى" عن نقاط ضعف عضوية في التركيبة الإسرائيلية، وبخاصة الأمنية والعسكرية، وبما ينطوي على تخوف، سبق أن أعرب عنه بايدن، من تكرار 7 أكتوبر. وعزز صمود حماس الاعتقاد بأن إسرائيل لا تقوى على التعامل بصورة حاسمة مع اختراق من هذا العيار، وعليه، فلا ضمانة إلا بالعودة إلى معالجة جذور المشكلة لتوفير الحماية لإسرائيل، وهذه قناعة صارت متداولة على نطاق واسع، ما عدا أقلية في أوساط الصقور.
وفي ظل اكتفاء الإدارة الأميركية بطرح عموميات، يبقى السؤال عن مدى جدية إدارة بايدن في هذا التوجه، وبأي صيغة تطرح موضوع الدولة، وهل تقوى على مواصلة الموضوع في موسم الحملة الانتخابية أو، على الأقل، وضع أساساته الكفيلة بمتابعته لو خسر بايدن في الانتخابات؟ ثم هل الإدارة تنوي أن تكون شريكاً على الطاولة، أم كغيرها تترك التفاوض للطرفين كما كان الأمر في أوسلو؟ لم تفصح الإدارة عما يتجاوز العموميات.