يُجمع خبراء ومحللون عسكريون في لبنان على أن ما يحصل بين "حزب الله" وإسرائيل على الحدود اللبنانية الجنوبية مع فلسطين المحتلة لا يزال ضمن إطار قواعد الاشتباك في سياق القرار الدولي 1701 الصادر عام 2006 عن مجلس الأمن الدولي، على الرغم من توسّع رقعة الاشتباكات والتصعيد الأمني المتبادل، وسقوط قتلى وجرحى من الطرفين، واعتبار الأحداث هي الأخطر منذ حرب يوليو/ تموز 2006 التي استمرت شهراً.
وتتسارع التطورات الميدانية على الحدود مع إعلان "حزب الله" قصف عددٍ من المواقع الإسرائيلية العسكرية، بالصواريخ الموجّهة، التي أدت إلى إصابتها بشكل مباشر وسقوط قتلى وجرحى في صفوف العدو، وذلك رداً على الاعتداءات الإسرائيلية التي أسفرت عن سقوط قتلى من عناصر الحزب، كما استشهاد مدنيين. واستهدف الاحتلال أيضاً طواقم إعلامية، ما أدى إلى استشهاد المصوّر الصحافي العامل في وكالة "رويترز" عصام عبد الله وجرح صحافيين آخرين.
وتؤكد أوساط "حزب الله" لـ"العربي الجديد" أن الحزب "لا يريد حرباً، ولكن الدم مقابل الدم، فهذه هي المعادلة التي يعمل على أساسها، وكل فعل من العدو الإسرائيلي سيلقى ردّ فعل من جانب الحزب، أما توسع دائرة المعارك فهذا يرتبط بالتطورات في فلسطين"، وتشير إلى أن "حزب الله لن يقف متفرجاً أمام استهداف العدو للمنازل في قرى حدودية جنوبية، وللأطقم الإعلامية، وكل قطرة دم تسقط من مدني لبناني، ستواجه بردٍّ قاسٍ من الحزب".
أوساط "حزب الله" لـ"العربي الجديد": الحزب لا يريد حرباً، ولكن الدم مقابل الدم، وكل فعل من العدو الإسرائيلي سيلقى ردّاً
في المقابل، نقلت وكالة "رويترز" عن متحدث عسكري إسرائيلي قوله اليوم الثلاثاء إن "قواعد الاشتباك في الشمال (على الحدود مع لبنان) شديدة الوضوح، وسيتم إطلاق النار على أي شخص يقترب من الحدود".
وتثير هذه الأحداث خشية اللبنانيين من اتساع رقعة الاشتباكات وتطوّرها إلى حرب، خصوصاً في حال حصل الغزو البري الإسرائيلي لغزة، وبالتالي، خروج الأمور عن السيطرة في الجنوب وكل لبنان الذي لا يزال محكوماً حتى الساعة بقواعد الاشتباك، فما هي هذه القواعد؟
بين الفعل ورد الفعل
في 11 أغسطس/ آب 2006، تبنّى مجلس الأمن الدولي بالإجماع القرار رقم 1701 الذي يدعو إلى وقف كامل للعمليات القتالية في لبنان، وذلك بعد حرب استمرت من 12 يوليو/ تموز إلى 14 أغسطس، وبدأت إسرائيل فيها عدوانها على لبنان بعد عملية أسر جنديين من جيش الاحتلال، في حين تبنّت الحكومة اللبنانية القرار في 12 أغسطس 2006.
ومنذ عام 2006 تم تحديد ما عُرفت بقواعد اشتباك بين "حزب الله" والعدو الإسرائيلي، وتتمثل بأن أي ردّ سيقابله رد مماثل، فيما حصلت خروقات عدة منذ ذلك الحين، ولكنها لم تتطور إلى حرب أو معركة.
ويقول وزير الداخلية اللبناني السابق مروان شربل لـ"العربي الجديد" إن "قواعد الاشتباك تعني بقاء العمليات محصورة في حدود الفعل وردّ الفعل بالحجم نفسه، والتزام الأطراف قدر الإمكان بالقرارات الدولية، بما فيها القرار 1701 الذي تبناه مجلس الأمن الدولي بالإجماع عام 2006، ويدعو إلى وقف كامل العمليات القتالية بين لبنان وإسرائيل". ويشير إلى أن "قواعد الاشتباك لا تزال اليوم محصورة بقصفٍ وردٍّ بالطريقة نفسها وضمن مناطق وحدودٍ معينة".
ويعتبر الوزير الأسبق أن "التطورات الأمنية التي حصلت أخيراً، بما فيها خلال الأيام الثلاثة الأخيرة، لا تخرج عن قواعد الاشتباك، على الرغم من توسّعها بعض الشيء، فالخروج يكون بقصف إسرائيل الضاحية الجنوبية لبيروت، وقصف حزب الله تل أبيب وحيفا".
من ناحية ثانية، يرى شربل أن "حزب الله أذكى بكثير من الانجرار نحو حرب، فهو منذ أكثر من سنة ينادي بالاستقرار والأمن في لبنان، ويعلم أن ذلك ينسحب إيجاباً على البلاد، وعليه أيضاً، خصوصاً في ظلّ التطورات التي تحصل في المحيط، إقليمياً ودولياً، كما يسعى لتحييد لبنان عن الصراعات الحاصلة"، مشيراً، بالتالي، إلى أن "حزب الله لا يناسبه أن تندلع الحرب مع إسرائيل، أو يتعرّض لبنان للقصف الإسرائيلي في ظلّ الظروف الأمنية والاقتصادية والمالية الصعبة، ولا سيما أن ذلك سيطاول كل اللبنانيين وحتى حلفاء حزب الله وبيئته".
في المقابل، يشير شربل إلى أن "الأنظار تتجه إلى إسرائيل وما إذا كانت ستجتاح غزة برياً، فحصول هذه العملية يعني حتماً تدخّل حزب الله وإيران وربما مصر وغالبية الدول العربية، سواء سياسياً أو عسكرياً"، معتبراً أن "العملية العسكرية البرية قد تقتصر على دخول إسرائيل بضعة كيلومترات إلى غزة، بهدف إعادة ثقة المواطنين الإسرائيليين بالجيش والحكومة الإسرائيلية لا أكثر، وقد تتدخّل بعدها الدول والأمم المتحدة وتصدر قرارات دولية، كما حصل مع لبنان عام 2006 في حربه مع العدو".
شربل: حزب الله لا يناسبه أن تندلع الحرب مع إسرائيل، أو يتعرّض لبنان للقصف الإسرائيلي في ظلّ الظروف الأمنية والاقتصادية والمالية الصعبة
لكن شربل يستبعد الغزو البري لأسباب عدة، أبرزها "خوف إسرائيل من التدخّل، هي التي سبق أن حاولت ذلك مرتين ولأيام معدودة وعجزت عن إتمام أهدافها، وهي تعلم أن اجتياح غزة مكلف جداً"، مضيفاً "غزة اليوم ليست كالتي كانت عليه أمس، وقد باتت هناك أنفاق تعجز إسرائيل عن الوصول اليها أو احتلالها من دون أن تدفع ثمناً سيكون باهظاً، وهي تدفع أصلاً أثماناً كبرى منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، ولن يكون بمقدور الجيش الإسرائيلي أو حكومة بنيامين نتنياهو تحمّلها في حال حصل الغزو البري". ويتابع: "إلى جانب ذلك، هناك أيضاً الوضع السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي في إسرائيل الذي لا يحتمل تدخّلاً بهذا الحجم".
توتر مضبوط على الحدود اللبنانية جنوباً
بدوره، يقول مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والاستشارات، العميد المتقاعد خالد حمادة، لـ"العربي الجديد"، إن "قواعد الاشتباك أو ما نسمّيه باللغة الإنكليزية "Rules Of Engagement"، هي بالحقيقة قواعد التدخّل لا الاشتباك، وترتبط بالدرجة الأولى بالقرار 1701، الذي دعا الحكومة اللبنانية لنشر قواتها المسلحة في الجنوب بالتعاون مع قوات الطوارئ الدولية التابعة للأمم المتحدة (اليونيفيل)، وطرق التنسيق بين الطرفين، وبنود أخرى لم تأتِ أي منها على ذكر قواعد اشتباك بين إسرائيل وحزب الله".
في المقابل، يلفت حمادة إلى أن "قواعد الاشتباك مصطلح يجرى استخدامه عند قيام حزب الله مثلاً بأعمال في جنوب الليطاني ليست ضمن القرار 1701 أو عندما يحصل قصف إسرائيلي على مزارع شبعا المحتلة، ويرد الحزب بقصف على الموقع نفسه، وهي أحداث سجلت مرات عدة في الأعوام الماضية، لكن هذه الأعمال باتت روتينية، وليست بجديدة أو غير مألوفة، ولم تثر أي مشكلات، لذا يتم وضعها ضمن إطار قواعد الاشتباك".
تبعاً لذلك، يشير حمادة إلى أنه "طالما القصف داخل مزارع شبعا ولم يتطور لجهة حجمه وغزارة النيران، أو ينتقل من حرب مواقع ثابتة إلى عمليات عسكرية، يمكن اعتباره ضمن قواعد الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل"، لافتاً إلى أنه "على الرغم مما يحصل على الحدود بيد أن التوتر لا يزال منضبطاً، إذ لم يحدث أي قصف على العمق الإسرائيلي من جانب الحزب، ولا على العمق اللبناني من جانب إسرائيل".
ويرى حمادة أن "توسع رقعة المعركة في لبنان وتطوّر الاشتباكات نحو حرب واسعة يتوقف عند أسئلة كثيرة ننتظر الأجوبة عليها، أبرزها، هل ستقوم إسرائيل بعملية برية في غزة؟ وكيف ستكون ردود الفعل عليها؟ وهل سيعطي الأميركيون الضوء الأخضر لها؟ وهل ستبقى الدول العربية مكتوفة الأيدي أم تتحرّك؟ وهل سيتعرّض الداخل الإسرائيلي لعمليات من خارج التوقعات؟ كلها أسئلة تحدد مسار التطورات في المنطقة وضمنها لبنان".
في السياق، يرى حمادة أنه في حال لم يحصل الغزو البري ستبقى الأمور ضمن قواعد الاشتباك، لافتاً إلى أن "حزب الله يريد أن يكون شريكاً في العملية ليطرح نفسه كطرف في ما يحصل في غزة، وإسرائيل بدورها تسعى للقول إنه ممنوع اختراق الجبهة الشمالية، كما يُعتقد أن لا ضوء أميركياً أخضر لعملية برية، وإسرائيل لن تفعل ذلك من دون الضوء الأميركي، في حين أن الولايات المتحدة لا تريد أن تغامر في علاقاتها العربية، وتدرك أبعاد أي تصرف غير مسؤول بهذا الإطار".
الحسابات أمام فتح معركة الجنوب اللبناني
بدوره، يقول اللواء عبد الرحمن شحيتلي الذي ترأس الوفد اللبناني في مفاوضات الخطّ الأزرق في الناقورة من عام 2007 وحتى 2013، لـ"العربي الجديد"، إن "التوصيف الحقيقي لما يحصل اليوم هو اشتباك وليس معركة، لكن هذا الاشتباك هادفٌ، بغية إيصال رسالة واضحة للإسرائيلي بأنه إذا أراد إكمال الحرب في غزة باستهداف المدنيين وتهجيرهم فإن حزب الله سيفتح معركة الشمال، والإسرائيلي فهم هذه الرسالة بالطبع".
ويرى شحيتلي أن "الحرب تحصل بقرار إما تتخذه إسرائيل أو حزب الله، لكن من جهة أولى لا يمكن لإسرائيل أن تتخذ مثل هذا القرار إلا بعد مراجعة أميركا ونيل موافقتها، خصوصاً أنه في حال قررت خوضها، سيصبح سلاح الجو الإسرائيلي خارج المعركة نتيجة صواريخ حزب الله، ما يعني أن الأميركي سيقوم بالمعركة بدلاً منها، وهذا الأخير لن يتورط بصورة مباشرة في الحرب طالما أن إسرائيل ليست مهددة ككيان". من هنا، يعتبر شحيتلي أن "الأميركي ليس مع فتح الجبهة الشمالية، باعتبار أنه والأوروبي سيقومان بالمعركة، وحتى الآن لم نر أي تحرك للأسطول الأوروبي، خصوصاً الاسباني والإيطالي والفرنسي، ما يعني أن لا قرار للحرب لغاية الآن".
شحيتلي: حزب الله سيتخذ قرار الحرب فقط في حال وجد أن هناك تهديداً كاملاً لغزة، أو إبادة لشعب غزة أو تهجيراً أو أرضاً محروقة في القطاع
كما يرى أن "ما حصل يوم الأحد الماضي تجاوز الحدود، إذ قام حزب الله بعمل عسكري كامل، ودمر مراكز ودبابات تابعة للعدو الإسرائيلي، وكانت إسرائيل قاسية بدورها بالردّ، ولكن حزب الله سيتخذ قرار الحرب فقط في حال وجد أن هناك تهديداً كاملاً لغزة، أو إبادة لشعب غزة أو تهجيراً أو أرضاً محروقة في القطاع، وهو لن يسمح بإنهاء حركة حماس وسيفتح عندها المعركة"، معتبراً أن الحزب يقف عند مفترق طريق اليوم، وهو وصل عند حدود المفترق لكن لم يدخل فيه بعد.
بدوره، يقول الباحث اللبناني في الشؤون العسكرية عمر معربوني، لـ"العربي الجديد"، إن "قواعد الاشتباك جاءت بعد إرساء معادلات ردع، وعادة تحصل قواعد الاشتباك بين فريقين متكافئين ومتعادلين بالقوة وليس بالضرورة بحجم القوة بل بنتائج أو حاصل القوة الناتجة عن اشتباك سابق".
ويلفت إلى أن "لبنان منذ عام 2006 بعد انتهاء عدوان يوليو يعيش مرحلة استقرار إلى حدٍّ ما، وهناك خروقات محدودة لم تؤثر على القواعد التي تم التوصل إليها عبر مفاوضات غير مباشرة، فحزب الله لم يدخل في مفاوضات مباشرة مع الكيان الإسرائيلي، والدولة كانت شريكة مع أطراف أخرى، وصدر القرار 1701، الذي يحدّد إلى حدٍّ ما مسألة وقف العمليات القتالية وليس وقف إطلاق النار".
ويشير معربوني إلى أن "ما يحصل الآن هو إلى حدٍّ ما ضمن قواعد الاشتباك السابقة لكن بوتيرة متسارعة ويومية، وطبعاً هذا يرتبط بما يحصل في غزة من عمليات"، معتبراً أن "هذه القواعد يمكن أن تُنسف من أساسها في حال تجاوز أحد الأطراف، المقاومة أو الكيان الإسرائيلي، القواعد المتعارف عليها ضمن قواعد الردع، وسنكون أمام قواعد ردع جديدة بعد انتهاء النزاع إذا حصل أو القتال إذا حصل، ويتم الاستناد فيها إلى موازين القوى والنتائج التي ستسفر عنها هذه المواجهات".
خروقات على الحدود اللبنانية
ومنذ ما بعد حرب 2006، حصلت خروقات على الحدود الجنوبية للبنان، ولكنها لم تصل إلى التصعيد العسكري الحاصل اليوم بين "حزب الله" وإسرائيل. ومن أبرز الخروقات، مقتل عنصرين من "حزب الله" في تفجير جهاز تجسس إسرائيلي في بلدة عدلون جنوب لبنان، وذلك بتاريخ 5 سبتمبر/ أيلول 2014. كذلك، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، أصيب جنديان إسرائيليان في انفجار عبوة ناسفة بدورية في مزارع شبعا المحتلة ورد الجيش الإسرائيلي بقصف مرتفعات بلدة كفرشوبا.
وفي 4 يناير/ كانون الثاني 2016، تعرّض جيش الاحتلال الإسرائيلي لهجوم على الحدود الجنوبية بعد دقائق من إعلان "حزب الله" استهدافه دورية إسرائيلية بعبوة ناسفة في مزارع شبعا الحدودية، وذلك في أول عملية منذ اغتيال القيادي سمير القنطار قرب دمشق بغارة صاروخية إسرائيلية في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2015.
كذلك، في 25 أغسطس/ آب 2019، سقطت مسيّرتان إسرائيليتان في الضاحية الجنوبية لبيروت. وفي 1 سبتمبر 2019، ردّ الحزب باستهداف مدرعة إسرائيلية بصاروخين مضادين للدروع من نوع "كورنيت" قرب مستوطنة أفيفيم أعقبها قصف إسرائيلي على أماكن حدودية.
وفي 26 يوليو/ تموز 2020، سقطت مسيّرة إسرائيلية في الجنوب اللبناني وأطلقت بعدها المدفعية الإسرائيلية قذائف عدة على نقاط حدودية جنوباً. وفي 1 فبراير/ شباط 2021، أعلن "حزب الله" إسقاط مسيّرة إسرائيلية فوق بلدة بليدا الجنوبية. وفي الرابع من أغسطس 2021، أطلقت 3 صواريخ من لبنان باتجاه شمال إسرائيل وردت مدفعية الاحتلال بضربة داخل لبنان.