استمع إلى الملخص
- المقاومة الفلسطينية قاومت ببسالة، لكن الهجوم أسفر عن تدمير كبير للمنازل والمرافق العامة، معكسًا استراتيجية الاحتلال لتغيير شكل المخيم وتقليص عدد سكانه.
- رغم الدمار، فشلت محاولات الاحتلال في تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، حيث أظهر سكان مخيم جباليا صمودًا أسطوريًا، مستمرين في التشبث بأرضهم وهويتهم الفلسطينية.
تقدمت مدرعات الاحتلال إلى مخيّم جباليا رفقة قواتٍ ضخمةٍ، لواءان ثمّ انضم لواءٌ ثالثٌ، في 11/5/2024، استمرت العملية نحو ثلاثة أسابيع، وهدفت حسب تصريحات قادةٍ سياسيين وعسكريين في جيش الاحتلال، إلى القضاء على كتيبة القسام، شرق معسكر جباليا، والبحث عن رفات مستوطنين خطفوا في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتدمير البنية التحتية للمقاومة شرق المخيّم.
يطول الحديث عن تصدي المقاومة المثير للإعجاب لجيش الاحتلال، وعن بطولاتٍ نادرةٍ تسجل بحروفٍ من نور في سجل المجد والخلود للمقاومة الفلسطينية الباسلة. لكن، حديثنا هنا سيتناول وجهًا آخر للعدوان، يتعلق تحديداً بالمخيّم كرمزٍ حيٍ للجوء ولمأساة الشعب الفلسطيني الممتدّة منذ عشرات السنين، فما حدث للمخيّم وما أصابه من دمارٍ وخرابٍ يشي بأهدافٍ واستراتيجياتٍ أخرى، ربّما أهمّها وأوّلها، حسب المعاينة الميدانية، استهداف أرتال المدرعات وجرافات الـD9 الأميركية مركز مخيّم جباليا التاريخي، الذي تأسس عام 1954، والذي يبلغ عدد سكانه حاليًا أكثر من مئة ألفٍ.
ليست بعيدةً عن ذلك محاولات حكومة الحرب الحالية إلغاء وكالة "الأونروا"
ما حدث في مخيّم جباليا يختلف كليًا عن صيرورة الحروب التقليدية وتطوراتها، التي تشمل اشتباكات كرٍ وفرٍ، والقتال والمناورة وجهًا لوجه، فبينما شقت الجرافات الضخمة والدبابات شارعًا أو شارعين في بلوكات (1، 2، 3، 4) بشوارع مستقيمةٍ، أو على شكل رقم 7، تكفلت الطائرات الحربية بتدمير مربعاتٍ سكنيةٍ كاملةٍ، محدثةً دمارًا هائلًا في البنية التحتية، فحسب المعاينة الميدانية دمر ما بين 50 و60% من بلوكات مركز المخيم (1–6)، وجرّفَ 70% من السوق المركزي، وحرق عيادة ومركز توزيع المساعدات الإنسانية، وكل مدارس السوق الخمس، ومدارس حمدان الأربع، بالإضافة إلى تدمير أكثر من 80% من البنية التحتية، خاصّةً آبار المياه ومياه الصرف الصحي.
أيّ أنّ جيش الاحتلال، بتوجيهاتٍ سياسيةٍ عليا، سعى إلى تدمير قلب المعسكر، وإحداث تحولٍ في شكل ومضمون المخيّم، بما يفضي إلى تقليص عدد قاطنيه، وخفض عدد أبنيته السكنية، وتقسيم مربعاته إلى تجمعاتٍ صغيرةٍ معزولةٍ، وهو ما يُذكر بما خطط له ونفذه وزير الحرب الصهيوني عام 1971 آرييل شارون، عندما شقت جرافات الاحتلال، بحجة مواجهة خلايا المقاومة، مساراتٍ وطرقًا واسعةً في مركز المخيّم ومحيطه، ورحلت السكان إلى مدينة العريش، التي كانت في حينها تحت الاحتلال الصهيوني.
ليست بعيدةً عن ذلك محاولات حكومة الحرب الحالية إلغاء وكالة "الأونروا"، عبر الشروع عمليًا، منذ بداية الحرب، بتجريم الوكالة، ومنعها من العمل في المدينة المقدسة، وعدم التعامل معها كلّيًا في قطاع غزّة، خصوصًا إنسانيًا وإغاثيًا بشأن توزيع المساعدات، والتحريض عليها في الساحة الدولية، وإلصاق تهم "الإرهاب" والارتباط بحركة المقاومة الإسلامية "حماس".
طبعًا؛ فشلت حكومة الاحتلال الفاشية على الساحة الدولية في تجريم وكالة "الأونروا"، وإلحاقها بالمقاومة، ووسمها "بالإرهاب"، كما سيفشل مخطط تغيير شكل ومضمون مخيّم جباليا الحالي باستخدام الألة العسكرية الصهيونية القاهرة، في خضم حالة الحرب المسعورة، لأن سلوك سكان المخيّم بعد العدوان على المخيم، منذ اللحظة الأولى، سار عكس ما رغبت به القيادة السياسية الفاشية وما فعلته الألة العسكرية وفقًا للملاحظة الميدانية المباشرة.
إنّ صمود أبناء المخيّم وثباتهم الأسطوري لا يمكن فهمه ضمن المعطيات والأحداث المتعارف عليها
إذ شرع عددٌ من الأُسر التي عادت إلى منازلها المدمرة جزئيًا في إعادة ترميم بيوتها بالإمكانيات المتاحة، ومن بينها من نصب خيمته على سطح منزله المدمر، كما بدأ النازحون في العودة إلى المدارس حتّى التي احترقت كلّيًا، حتّى إلى مدرسة "أ" الإعدادية للبنات المُحترقة بالقرب من مركز الشرطة، فخلال عشر ساعات في اليوم الأول، بعد العدوان، تم إشغالها بالكامل من قبل النازحين، وكانت علامات الجد والنشاط باديةً على الأسر بشبابها وأطفالها ونسائها، وبعد أقلّ من أُسبوعٍ عادت الحياة إلى محيط السوق المركزي، وانتظمت بسطات الباعة والتجار في صفوفٍ مستقيمةٍ، وتكاثر المشترون رغم محدودية البضاعة الموجودة وقلتها.
طبعًا لا يمكن التقليل من هول المصاب، ومن ضخامة المعاناة، ومن آثار الآلة العسكرية الصهيونية الغاشمة، لكن، على الجهة المقابلة، فإنّ صمود أبناء المخيّم وثباتهم الأسطوري لا يمكن فهمه ضمن المعطيات والأحداث المتعارف عليها، ولا يمكن تفسيره في سياقات صيرورات النضال وحركات التحرر. فهذه المرّة الثانية التي يجتاح فيها الجيش الصهيوني مخيّم جباليا، ويقتل ويجرح المئات من أبنائه، ويدمر أجزاءً واسعةً منه، لكن سكان المخيّم، وبكلّ ثقةٍ وتصميمٍ، مستمرون في التشبث بالمخيم، وفي مقاومة محاولات طمسه كرمزٍ للسردية الفلسطينية، وكمعلمٍ بارزٍ للجوء والتهجير ومأساة الشعب الفلسطيني.
ومن ناحية أخرى، فإنه ورغم الروح الوطنية الجامحة، وقيم الانتماء التي دفعت المواطنين للتشبث بمخيّمهم والإصرار على الثبات فيه، إلّا أنّ حالة الوعي والإدراك والفهم الدقيق لمرامي الاحتلال، من محاولات تدمير المخيّم وتغيير بنيته وشكله العام، ساهمت هي الأخرى في العودة إليه، والتشبث به بعد العدوان الأخير، فذاكرة الطرد والتهجير في نكبة 1948، وبعد ذلك في نكسة 1967، وخطط جيش الاحتلال عام 1971 لتقليص حجم المخيّم، ما زالت حاضرةً في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، ليس في مخيّم جباليا فقط، بل في كلّ مخيّمات اللجوء.
بالمحصلة؛ فإنّ خطط جيش الاحتلال، مدفوعاً بتوجهات حكومة اليمين الفاشي المتطرف لإلغاء فكرة اللجوء ورمزيته المتمثلة في مخيّمات اللاجئين، وأبرزها مخيّم جباليا، وإنهاء وكالة "الأونروا" كشاهدٍ حيٍ على التهجير واللجوء، ستتحطم على صخرة صمود الشعب الفلسطيني وثباته على أرضه، وستتهاوى أمام حالة الوعي والنضج المعرفي، والذاكرة الحيّة لما يخطط له الاحتلال بأدواته العسكرية الإجرامية.