ينشغل العالم بأخبار الحرب الروسية الأوكرانية وبآثارها وتبعاتها على الاقتصاد العالمي وعلى التغيرات الجيوسياسية، بغض النظر عن "المنتصر" في هذه الحرب. وأتى يوم الثامن من آذار، اليوم العالمي من أجل حقوق النساء في ظل هذا السياق، لكن يبقى الموضوع مهماً حيث للحرب تأثير كبير على أوضاع النساء، وتعرضهن للانتهاكات المختلفة وعدم تطبيق القانون الدولي الإنساني لحمايتهن من الاعتداءات والاغتصاب وجرائم الحرب.
شهر آذار هو شهر المرأة؛ يوم الثامن من مارس/ آذار، ويوم الواحد والعشرين؛ عيد الأم، وهذان اليومان يعتبران فرصة ومناسبة مهمة للتذكير بمعاناة النساء الفلسطينيات، فلا تزال المرأة الفلسطينية تعاني من آثار الاستعمار والتهجير منذ أكثر من مائة عام، ومن اضطهاد المجتمعين الأبوي والذكوري اللذين يحرمانها من ممارسة حقوقها الوطنية والاجتماعية، ومن غياب القوانين التي تشكل حماية لها.
لعبت النساء الفلسطينيات وما زلن، على مر التاريخ، دورا هاما في الحياة السياسية الفلسطينية وفي الحركة الوطنية، ودفعن أثمانا غالية سواء كشهيدات، جريحات ومعتقلات، وهن من يحاربن على جبهتين، وكل جبهة تحدياتها كبيرة ومعيقات مشاركة النساء فيها أيضا كثيرة. من هذه العوائق ليس فقط معارضة شرائح كبيرة من المجتمع لمشاركة النساء لحجج واهية تدعي المحافظة على "شرف" المرأة والأسرة، بل هنالك معيقات أخرى تأتي من النخب السياسية، وبعض النخب النسوية. لتوضيح هذه المسألة ربما علينا العودة إلى جذور المسألة وبداية التراجع في مشاركة النساء في العمل الوطني والنسوي.
بالإضافة إلى وجود الجمعيات الخيرية النسائية التي تأسست في سنوات الأربعينيات، الخمسينيات والستينيات والتي كان تنصب جهودها بتقديم المساعدات للعائلات الفقيرة ولعائلات الشهداء، عام 1964 تم الإعلان عن إنشاء الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، وفي منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حيث كانت هنالك حركة جماهيرية كبيرة في الجزء المحتل من الوطن في عام 1967، حيث تشكلت "لجان العمل التطوعي" والتي كانت رافدا كبيرا لمناضلات ومناضلين في أوساط الشباب والنساء، وعملت على تعبئة الجماهير لمواجهة الاستيطان الصهيوني، وتوسيع انخراط النساء والشباب. بعد ذلك، عملت الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية ذات التوجه اليساري، ثم تبعتها حركة فتح، على تأسيس اتحادات ولجان للمرأة كأَذْرُع نسوية لتلك الأحزاب للعمل في صفوف النساء وحشدهن، وساهمت هذه الاتحادات بدور مهم وكبير في فترة الانتفاضة الفلسطينية الأولى وأيضا عمل بعضها على قضايا النساء العاملات ورفع قضايا لتحصيل حقوقهن. كانت الرؤية في تلك الفترة تتركز فقط على مشاركة النساء في العمل الوطني، وكان العمل على أساس النوع الاجتماعي والحقوقي غائبا.
في عام 1987 اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى، وكان للمرأة دور فعال ساهمت فيه بجميع جوانب الحياة الفلسطينية في تلك الفترة. لم تنحصر مشاركة المـرأة الفلسـطينية بفئـة معينة، إذ تضمنت مختلف الفئات، كما اشـتركت الأميـة والمتعلمـة، وشاركت المرأة في القرية والمدينة والمخيم. كما تحدّت المرأة الفلسطينية بعض العادات والتقاليد التي كانت تحد مـن فكرهـا، فقـد تجاوزت العادات والتقاليد السلبية التي ألحقت الضرر بالفكر الثقـافي والاجتمـاعي النسـوي. واستطاعت المرأة أن تثبت نفسها من خلال تطوير اللجان الشعبية، والعمـل النسوي، مع دعم القيادة الوطنية المحلية والقيادة العليا، مما أسهم وزاد مـن مسـاهمتها فـي مختلف المجالات والأصعدة. فقد امتازت هذه المرحلة بإدخال مفاهيم خلاقة وثوريـة ووطنيـة وإيجابية للمجتمع الفلسطيني وبالأخص المرأة الفلسطينية، التـي أعطـتها المكانة المرموقة التي وصلت لها.
في المرحلة التي سبقت الانتفاضة الأولى كان التركيز على تحشيد النساء للمشاركة في العمل الوطني ولم يكن البعد الاجتماعي موجودا بل كانت عملية تحرر النساء الاجتماعي مقتصرة على حالات فردية ومتواجدة لدى شريحة صغيرة جدا
ثم جاءت مرحلة "المسار التفاوضي" بعد مؤتمر مدريد في 1991 وتشكلت الطواقم الفنية لمـؤتمر مدريـد لدعم المفاوضين وتقديم النصائح والاستشارات لهم في القضايا المختلفة، فتم تشكيل طاقم شؤون المرأة عام 1992 بناء على طلب فلسطينيات في التنظيمات الأعضاء في منظمة التحرير، وذلك لتشارك في وضع الخطط في المجالات المختلفـة: التعلـيم، والصـحة، والعمـل، والاقتصاد، والزراعة....إلخ. حيث شاركت ست نساء من بين ثلاث مائة مشـارك فـي الطـواقم الفنية، "ونتيجة للجهود المبذولة فقد زاد عدد النساء المشاركات إلى ست وستين امرأة وبلـغ العـدد الإجمالي في هذه الطواقم الفنية ثلاث مائة وستة وستين شخصا دون احتساب عدد النساء المشاركات في طـاقم شؤون المرأة.
في المرحلة التي سبقت الانتفاضة الأولى كان التركيز فقط على تحشيد النساء للمشاركة في العمل الوطني، ولم يكن البعد الاجتماعي موجودا، بل كانت عملية تحرر النساء الاجتماعي مقتصرة على حالات فردية ومتواجدة لدى شريحة صغيرة جدا، لكن بعد اندلاع الانتفاضة الأولى في عام 1987 والمشاركة الواسعة والكبيرة للنساء من كافة الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية، وزيادة مكانة النساء في القيادة الميدانية، ساهم ذلك في رفع الوعي بأهمية التحرر الاجتماعي للنساء وأهمية ربط التحرر السياسي بالتحرر الاجتماعي والمساواة. لكن بعد مسار التفاوض وإقامة السلطة الفلسطينية وتشكيل كيان هلامي، بدون أي سيادة فعلية، وتشكيل وزارات، ومجلس تشريعي وتحول المنظمات النسوية إلى منظمات غير حكومية، أصبح التركيز على الخطاب الحقوقي و "التمكين الاجتماعي والاقتصادي" للمرأة وتنظيم الآلاف من ورش العمل والمؤتمرات التي تقام معظمها في فنادق، بعيدا عن الميادين التي تتواجد بها النساء العاملات في ورش العمل، في المزارع، أو ربات البيوت، كل ذلك ساهم في توسيع الفجوة بين النخبة والنساء غير المنظمات واللواتي يتم الحديث باسمهن في المؤتمرات في الداخل والخارج بدون العمل الحقيقي معهن أو حتى أتجنب ظلم التعميم، بعمل هامشي على الأرض.
بعد ذلك، دخلت نخبة "الحركة النسوية" في مسار الانتخابات للسلطة الفلسطينية حديثة المنشأ، وترشحت النساء في قوائم التنظيمات التي قبلت المسار التفاوضي للمجلس التشريعي الفلسطيني. غير أن التطورات المتعاقبة منذ "اتفاقات أوسلو"، أحدثت "تغييرات عديدة في بنية المجتمع الفلسطيني وطريقة حكمه"، راحت تتشكّل حركة "نسوية جديدة"، تمثّلت في مراكز لدراسات المرأة ومؤسسات ولجان نسوية، اعتمدت على التمويل الخارجي في تنفيذ برامجها وأنشطتها، واعتمدت على توظيف نساء "مهنيات" يمتلكن مهارات لغوية أجنبية وقادرات على تجنيد التمويل، ودخلت مصطلحات ومفاهيم جديدة، وتم تهميش العمل التطوعي، مما أدى إلى انسحاب العديد من عضوات اللجان والاتحادات وأصبحت الحركة النسوية "منظمات غير حكومية" تعمل على توظيف كوادر "مهنية" وتشكيل مجالس إدارة لا تملك صلاحيات فعلية في رسم السياسة العامة، وانتقلت السلطة الفعلية إلى مديرات هذه المؤسسات، اللواتي كن سابقا قائدات جماهيريات!
منذ اعتراف السلطة الوطنية الفلسطينية ومصادقتها على المواثيق الدولية الخاصة بحقوق المرأة، اجتاحت المجتمع الفلسطيني جملة من التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي زادت من وعي النساء بحقوقهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية
كذلك، انتقل التأثير من توعية وتحشيد النساء في القرى، المدن والمخيمات، إلى خطاب وعمل حقوقي يستهدف التأثير في المجتمع الدولي، مما ساهم في إضعاف دور النساء. وخصوصاً بعدما "بات التركيز منصباً على المواعيد النهائية للمشاريع، والميزانيات، ومقترحات التمويل، والتقارير السنوية، وكلها تخضع لمجتمع المانحين الدولي"، وبعدما برزت مصطلحات مثل مصطلح "التمكين"، اقتصر نطاقه على "التمكين الاقتصادي والاجتماعي"، وليس على "تمكين المرأة من مقاومة الاحتلال ووضع رؤية لِما بعد التحرر".
منذ اعتراف السلطة الوطنية الفلسطينية ومصادقتها على المواثيق الدولية الخاصة بحقوق المرأة، اجتاحت المجتمع الفلسطيني جملة من التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي زادت من وعي النساء بحقوقهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وزادت من مشاركتهن في كافة المجالات، بنسـب مختلفة ومتفاوتة، بينما لم تطبق تلك النصوص على أرض الواقع، ولم تمنح المـرأة كامـل حقوقهـا السياسية نتيجة عوامل عدة، منها: العشائرية، والقبلية، والموروثات الاجتماعية التي ما زالـت قائمة في المجتمع الفلسطيني. يمكن اعتبار المطالبة الدائمة بالإسراع بإقرار قانون حماية الأسرة من العنف والتمييز، مثالا على الفجوة بين النصوص والتطبيق، كما نلحظ أن يوم الثامن من آذار الذي أقرته الحكومة الفلسطينية يوم عطلة رسمية مدفوعة الأجر، يشمل الموظفات والعاملات والموظفين والعاملين في المؤسسات العامة الحكومية وفي منظمات المجتمع المدني، في حين تحرم منه العاملات في الورش، أي يصبح هذا اليوم بلا معنى بالنسبة لهن!
ما البديل؟
من الضروري الاستمرار في رفع راية النضال دفاعا عن حقوق نساء فلسطين الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من أجل الخلاص من منظومة الاستعمار الصهيوني الاستيطاني وكافة أشكال التمييز والعنف القائم على النوع الاجتماعي. ومن أجل كسر التهميش السياسي للنساء وإعادة تفعيل النضال التحرري من خلال العمل النسوي، اللذين يتطلبان "إعادة هيكلة وتحوّل الحركة النسوية إلى حركة مستقلة تناضل من أجل تحرير المرأة في المجالات كافة، بما فيها المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي"، وتسعى "لاستعادة ارتباطها بالقواعد الشعبية وبخطاب التحرير"، وتعمل على ضمان "الاكتفاء الذاتي" لإضعاف سطوة المانحين وتمهيد الطريق للسيادة الاقتصادية، وقد ينطوي ذلك على العودة لتطبيق نظام قائم على اشتراكات الأعضاء" ومساهمات المجتمع المحلي بتمويل الأنشطة.
ساهمت الاتحادات النسوية بدور مهم وكبير في فترة الانتفاضة الفلسطينية الأولى
كذلك، فإن العمل مع النساء المهمشات سوف يرفع وعيهن وسيشاركن في الدفاع عن حقوقهن أمام الهجمة الشرسة التي أطلقتها بعض العشائر ضد اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والتي صادقت عليها السلطة الفلسطينية.
نلاحظ في الفترة الأخيرة، وخاصة بعد عودة السلطات الاستعمارية إلى سياسة العقوبات الجماعية بشكل مكثف، تزايُد الاعتداءات الممنهجة من قبلها ومن قبل المجموعات الاستيطانية الإرهابية، فعادت المرأة الفلسطينية إلى المشاركة بالدفاع عن الأرض وخاصة في المناطق التي تتعرض للهجمة الاستيطانية، ورجعت من جديد مشاركة قيادات العمل النسوي بالعمل التوعوي الوطني وهذا مؤشر إيجابي ولكن ما يجب قوله أن جيلا جديدا من الشابات النسويات في فلسطين التاريخية يعمل بشكل جديد وبخطاب مختلف يجمع بين النسوي والوطني وربما ستكون هذه الحراكات الشابة في الضفة الغربية وغزة والقدس وحيفا واللد والنقب وفي الشتات تغييرا نوعيا للعمل النسوي وبناء لحراك نسوي مستقل وشامل، يناضل ضدّ كل أشكال العنف الممارس على المرأة الفلسطينية في أماكن وجودها كافة، وأكبر مثال على ذلك حركة "طالعات" التي صرحت إحدى المبادرات لها، بأنها جاءت "انطلاقًا من أن كل النساء الفلسطينيات هن بنات مجتمع فلسطيني شرذمته النكبة وفرقته، مجتمع يواجه عنف المنظومة الإسرائيلية بشكلٍ يومي، والنساء هنّ جزء من هذا المجتمع، سواء في الضفة أو في غزة أو الداخل الفلسطيني أو حتى في الشتات ودول اللجوء".