حسم تحالف اليمين الإسرائيلي المتطرف حالة الصراع الداخلي في إسرائيل، وكسر التعادل الذي ظل قائما خلال السنوات الأربع الماضية، التي شهدت إجراء خمس دورات انتخابية، حصل التحالف على 64 مقعدًا في الكنيست، مقابل 56 مقعدًا لجميع قوى واتجاهات المعسكر المضاد، التي هي خليط من القوى المتنافرة. النتيجة التي تمخضت عن انتخابات الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 أغرت تحالف اليمين الإسرائيلي الحاكم بالتقدم خطوات ملموسة نحو حسم الصراع الأصعب والأطول، على الجبهة الأكثر سخونةً واشتعالًا، جبهة الصراع مع الفلسطينيين.
الأغلبية الميكانيكية المريحة التي يملكها اليمين، والتفوق العسكري الحاسم على الفلسطينيين، إلى جانب مجموعة من العوامل الدولية والإقليمية والمحلية، أبرزها: الانقسام الفلسطيني، وضعف السلطة، وحالة التفكك والأزمات الداخلية التي تعيشها عدة دول عربية، ثم انشغال العالم بأزماته المستعصية والمتجددة، مثل جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، كل ذلك يوفر فرصة تاريخية سانحة، ويشجع إسرائيل على تنفيذ مخططها الاستراتيجي بالسيطرة على أكبر مساحات ممكنة من الأرض الفلسطينية والجولان السوري المحتل، وتصفية القضية الفلسطينية بجعل الحكم الإداري الذاتي المحدود سقفًا لطموحات الفلسطينيين الوطنية، واختزال هذه الحقوق إلى مجرد حق البقاء، دون أي حقوق سياسية أو سيادية.
ما دامت فصائل المقاومة المسلحة في غزة هي نفسها العاملة في الضفة، فإن خياراتها النهائية ترتبط بقدرتها أيضًا على تأجيج المقاومة في الضفة
فرض الحل النهائي بالقوة
الحل الذي تسعى إسرائيل إلى فرضه بقرار أحادي، وبقوة الحديد والنار، دون أي مفاوضات أو اتفاقيات، يعني أولًا إخضاع الفلسطينيين، وقبولهم العملي بالتعايش معها، والتكيف مع شروطها، أو من خلال القضاء على كل أشكال المقاومة واجتثاثها، ومنع أي مظهر من مظاهر معارضة الاحتلال.
تُجاهر الحكومة الإسرائيلية الحالية بنواياها، بشأن أطماعها التوسعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خلافًا لما درجت عليه الحكومات السابقة من عبارات ملتبسة بشأن مسيرة التسوية والسلام المستند إلى مبدأ حل الدولتين واتفاقيات أوسلو. صرحت هذه الحكومة على لسان رئيسها، في جلسة طلب الثقة بتاريخ 29/12/2022، بأن "للشعب اليهودي حقًا حصريًا لا ريب فيه على أرض إسرائيل الكاملة، وسوف تعمل الحكومة الجديدة على توسيع الاستيطان وتعزيزه في كافة أرجاء أرض إسرائيل، بما يشمل الجليل والنقب والجولان ويهودا والسامرة، أي الضفة الغربية".
لا ذكر إذن لأي عملية سلام ولا لاتفاقيات موقعة، ولا حتى إشارة لوجود فلسطينيين وسلطة فلسطينية. العبارة في حد ذاتها تطوير لما ورد في قانون أساس القومية العنصري، الذي أقر في العام 2018 "ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل هي حصرية للشعب اليهودي"، كذلك إن تطوير الاستيطان اليهودي يمثل "قيمة قومية، ويجب العمل على تطوير الاستيطان ودعمه وتثبيته".
ما يكشف اتجاهات عمل الحكومة الإسرائيلية الجديدة ليس إعلاناتها وتصريحات رئيسها فقط، فهذه الأخيرة تراعي أحيانًا اعتبارات وقواعد العلاقات العامة، وصورة إسرائيل أمام أصدقائها وحلفائها القدامى والجدد، لكنها تتكشف أكثر من خلال الاتفاقيات الائتلافية التي أبرمها حزب الليكود وزعيمه مع شركائه الأقربين، خاصةً الأكثر تطرفًا بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، ثم اتضحت الاتجاهات التصعيدية لهذه الحكومة أكثر عبر توزيع الحقائب والمسؤوليات، إذ أسندت وزارة الأمن الداخلي، بعد تغير اسمها لوزارة الأمن القومي، لبن غفير، كما أنيطت بهذا الوزير المتطرف مهمة الإشراف على قوات حرس الحدود، وتولى وزير آخر من حزبه مسؤولية وزارة "تطوير الجليل والنقب". أما سموتريتش فتسلم حقيبة المالية، إلى جانبها استحدث له موقع وزير ثانٍ في وزارة الأمن، مهمته الإشراف على الإدارة المدنية التابعة للجيش، المكلفة بالعلاقة مع الفلسطينيين، وبشؤون الاستيطان والمستوطنين.
اتجاهات التصعيد
أكثر ما يكشف النزعات التصعيدية للحكومة الجديدة هو سلوكها العملي المسنود بالمسؤوليات الجديدة، أبرز هذه الاتجاهات:
- العمل على تغيير الوضع القائم في القدس، وفرض السيادة الإسرائيلية المطلقة على المدينة المقدسة، والسيطرة على الحرم القدسي الشريف، وانتزاع صلاحيات دائرة الأوقاف التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية، الأمر الذي يجدد المخاوف من تنفيذ خطة التقاسم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وهو أمر لا تخفيه بعض الأوساط اليمينية المتطرفة المشاركة في حكومة نتنياهو.
- إنكار وجود شعب فلسطيني بحقوق وطنية سياسية، والتعامل مع الفلسطينيين كتجمعات سكانية لكل منها مطالبه الحياتية الخاصة، مع إدامة الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة والقيام بتسويات وترتيبات أمنية مؤقتة لكل طرف.
- إطلاق أوسع عملية استيطان في الضفة المحتلة، من خلال توسيع المستوطنات القائمة، والضم الفعلي للتجمعات الاستيطانية الرئيسية، وإضفاء الشرعية على جميع البؤر الاستيطانية.
- حسم مصير الأراضي الفلسطينية المصنفة (ج)، التي تعادل 62% من مساحة الضفة، عرّفها اتفاق أوسلو بأنها أراض متنازع عليها وأبقى المسؤوليات الأمنية والإدارية عنها بيد إسرائيل، وذلك بمنع الفلسطينيين من القيام بأي نشاط فيها، بما يشمل الزراعة والرعي ومشاريع البنية التحتية، مثل شق الطرق والمرافق الصحية والتعليمية، التي تخدم التجمعات الفلسطينية في المنطقة.
- حشر الفلسطينيين في أماكن سكناهم الحالية، داخل حدود المدن والبلدات المحاصرة والمعزولة بعضها عن بعض، والعمل تدريجيًا على جعل الأراضي الفلسطينية مناطق طاردة للسكان، بما يساهم في عملية الترحيل (الترانسفير) الطوعي، أو قبول الفلسطينيين بمصيرهم الذي ترسمه إسرائيل: سكان دون أي حقوق وطنية!
- ملاحقة الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948 بالعمل على فصم انتمائهم لشعبهم الفلسطيني، ونزع شرعية عملهم السياسي، وإطلاق عمليات تهويد واسعة في مراكز تجمعاتهم الرئيسية، خاصةً في الجليل والنقب.
كل ذلك يوفر فرصة تاريخية سانحة، ويشجع إسرائيل على تنفيذ مخططها الاستراتيجي بالسيطرة على أكبر مساحات ممكنة من الأرض الفلسطينية والجولان السوري المحتل، وتصفية القضية الفلسطينية
محاولات حسم الصراع بقرار أحادي، ليست اختراع حكومة اليمين المتطرف وحدها، بل بدأت في عهد حكومة حزب العمل، برئاسة إيهود باراك، ثم تواصلت مع حكومات شارون، حين كان في رئاسة الليكود ثم بعد تأسيسه حزب كاديما، وصولًا إلى حكومة بينت – لبيد - غانتس السابقة، لكن الحكومة الحالية تبدو أكثر وضوحًا في تنفيذ هذا المشروع، وأقل اكتراثًا بردود الفعل الدولية وصورة إسرائيل في المحافل العالمية.
معركة ضد شعب
تكمن مشكلة إسرائيل، الساعية إلى فرض الحل الذي تريده بالقوة، في خوضها حربًا لحسم الصراع نهائيًا ضد الفلسطينيين، أي ليست موجهة ضد نظام سياسي ما أو جيش أو بنية رسمية نظامية تمكنها من فرض شروط الاستسلام حال هزيمة خصمها، كما اعتاد المنتصرون في الحروب التقليدية؛ هذه الحرب، التي لا تتوقف ولا تنتهي، موجهة ضد الوجود الفلسطيني برمته، أي ضد الناس والأفراد وحياتهم وأرضهم وممتلكاتهم ومقدساتهم وحقوقهم وكرامتهم الشخصية والوطنية، فهي معركة ضد شعبٍ كاملٍ، يستحيل حسمها دون إبادة هذا الشعب أو ترحيله، وهذه خيارات غير قائمة حاليًا.
كل فرد فلسطيني ضمن دائرة الاستهداف، سواء كان مقاتلًا في تشكيل عسكري ما، أو مواطنًا مسالمًا يكابد لإعالة أسرته، فعمليات القتل والإعدام الميداني التي شهدها العام 2022 على أيدي حكومة بينت – لبيد، شملت تلاميذ في طريقهم إلى المدرسة، وعمالًا ومزارعين وصحافيين ومعلمين وأطباء وعاملين في الخدمات الصحية وأفرادًا وجدوا بالصدفة في أماكن انفلات آلة القتل على يد الجنود والمستوطنين.
على الجهة المقابلة، يترك الانقسام الفلسطيني أثرًا مدمرًا على قدرة الفلسطينيين على مواجهة هذا المخطط الإسرائيلي الهادف إلى شطبهم وتصفية قضيتهم. يجد الانقسام ترجماته الفعلية في تنافر الخيارات السياسية الفلسطينية وتضاربها، وفي غياب الحد الأدنى من التناغم والانسجام بين العمل السياسي والدبلوماسي والقانوني من جهة، وبين الفعاليات الكفاحية والمقاومة بمختلف أشكالها من جهة أخرى، لذا بدا الرد الفلسطيني الرسمي على الجرائم الإسرائيلية المتواصلة في أضعف حالاته، مع الاكتفاء بترديد خطاب المظلومية والشجب والاستنكار والتنديد، ومطالبة المجتمع الدولي بالتدخل، خطاب هو أقرب إلى إعلان العجز، حتى في مجال الخطوات القانونية والدبلوماسية السلمية؛ مثل التوجه إلى مؤسسات الأمم المتحدة وأدوات القانون الدولي، التي اعتادت إسرائيل الرد عليها بمنتهى الصرامة والإجراءات العقابية، التي تطاول الأفراد ومؤسسات السلطة وأموالها.
مقاومة من نمط جديد
فتحت حالة العجز الباب واسعًا لردود الفعل الشعبية العفوية، التي تمخض عنها نمط جديد من عمليات المقاومة، نفذها أفراد أو مجموعات حلقية صغيرة، لا ترتبط بتوجيهات مركزية من الفصائل التقليدية، هذه العمليات أربكت منظومة الأمن الإسرائيلية، التي لم تعد قادرة على التحديد الدقيق لخصمها وبنك أهدافها، كما اعتادت سابقًا مع التنظيمات المسلحة، ثم تطورت هذه الحالة لاحقًا، عبر مسار معقد ومثقل بالخسارات والتضحيات، إلى بروز تشكيلات نوعية جديدة، هي أقرب إلى التشكيلات الميدانية المفتوحة على مشاركة أفراد من مختلف التنظيمات، بمن فيهم المستقلون ومنتسبو الأجهزة الأمنية، على غرار كتيبة جنين ونابلس ثم مجموعة عرين الأسود، باتت هذه المجموعات عصية على التصفية من قبل آلة القتل الإسرائيلية من جهة، ومن الصعب احتواؤها من قبل السلطة والأجهزة الرسمية الفلسطينية من جهة ثانية.
أما بشأن التشكيلات المقاومة التقليدية، التي بلغت أوج قوتها في قطاع غزة، كما برز في معركة سيف القدس في مايو/ أيار 2021، فقد سعت إسرائيل بكل ما أوتيت من قوة لتحييد هذه التشكيلات عن التدخل في مواجهات الضفة وأحداثها المتصاعدة، الأمر الذي سمته "الفصل بين الساحات"، ردت عليه المقاومة، حركة الجهاد الإسلامي تحديدًا، بإطلاق اسم "وحدة الساحات" على المواجهة العسكرية في أغسطس/ آب الماضي. لكن تقارير إسرائيلية أمنية وإعلامية كثيرة تشير إلى وجود علاقات متداخلة بين فصائل المقاومة المسلحة والتشكيلات الجديدة الناشطة في شمال الضفة.
محاولات حسم الصراع بقرار أحادي، ليست اختراع حكومة اليمين المتطرف وحدها، بل بدأت في عهد حكومة حزب العمل، برئاسة إيهود باراك
تبقى خيارات المقاومة في التعامل مع التصعيد الإسرائيلي مرهونة بعاملين، هما: حدود هذا التصعيد، إذا طاول مكانة المسجد الأقصى وسلامته، والحسابات العملية المرتبطة بكلفة هذا التدخل وجدواه، مع ارتباط ذلك بالمسؤولية عن حياة مليوني فلسطيني يعيشون في قطاع غزة، تحت وطأة حصار إسرائيلي طويل وخانق.
ما دامت فصائل المقاومة المسلحة في غزة هي نفسها العاملة في الضفة، فإن خياراتها النهائية ترتبط بقدرتها أيضًا على تأجيج المقاومة في الضفة. بعيدًا عن المبالغات الإعلامية والحسابات التبسيطية، التي تعتبر المقاومة ذات قدرات عسكرية خارقة وقادرة على ردع إسرائيل، تبقى المقاومة عاملًا استراتيجيًا رئيسيًا وقابلًا للتنمية في بناء قدرة الشعب الفلسطيني على الصمود وعلى مواجهة خيارات الشطب والتصفية.