تمّ تدوير أكثر من مائتي معتقل ممن أخلي سبيلهم بقضية أحداث سبتمبر
تتناقض الاتهامات الجديدة مع واقع السجون الشديدة الحراسة
فتحت النيابة قضيتين جديدتين الشهر الماضي، تضمان أكثر من 70 معتقلا
دخلت ظاهرة تدوير المعتقلين في مصر، عبر ضمّهم إلى قضايا جديدة بعد إخلاء سبيلهم، مرحلةً جديدة خلال الأسابيع الأخيرة. ولم يعد الهدف الوحيد من الظاهرة، رفع مستويات التنكيل بعدد محدود من المحبوسين، مثل النشطاء السياسيين البارزين الذين يرفض الأمن الوطني أو الاستخبارات العامة إخراجهم من السجون، حتى بعد انتفاء الأسباب القانونية لذلك، بل أصبح الهدف الرئيسي من عمليات التدوير المتتابعة، الالتفاف على الرأي العام الخارجي تحديداً، وخداع السفارات الأجنبية المتابعة لأوضاع حقوق الإنسان في مصر. وينسف ذلك مصداقية وجدّية النظام في إبداء أي بادرات لتقليل أعداد المعتقلين والإفراج عن المحبوسين، سواءً كانوا نشطاء سياسيين أو غير منتمين لأي تيار سياسي.
وبدأ نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الإعلان عن إخلاء سبيل أعداد كبيرة من المعتقلين المحبوسين على ذمّة قضايا تعود إلى عامي 2018 و2019، وذلك في أعقاب الانتقادات الغربية الحادة التي وصلت عبر السفارات، والمناقشات مع وزارة الخارجية في أعقاب أحداث 20 سبتمبر/أيلول الماضي. وشهدت مصر حينها تظاهرات ضد النظام، في مناطق عدة في الجيزة والأقصر ومحافظات الصعيد، أسفرت عن اعتقال الآلاف ممن كان جلّهم غاضبين من إجراءات القمع الأمني المتبعة لتحصيل رسوم التصالح في مخالفات البناء أو التهديد بطردهم من منازلهم وهدم عقاراتهم. فضلاً عن الشكوى من انتشار البطالة في القرى التي يرتبط العمل فيها بنشاط البناء، نظراً لقرار السيسي السابق وقف أعمال البناء على مستوى الجمهورية.
الهدف الرئيسي من عمليات التدوير المتتابعة، الالتفاف على الرأي العام الخارجي تحديداً
بعد التظاهرات التي امتدت لنحو أسبوع، وبلغت ذروتها بمقتل مواطن في قرية العوامية في الأقصر، في ظروف تؤكد استغلال النظام للآلة الأمنية للبطش والتخويف، حاول النظام تقديم وجه مغاير من خلال إخلاء سبيل نحو 450 من المتهمين المحبوسين على ذمة القضيتين 1338 و1413 لسنة 2019 حصر أمن دولة عليا، الخاصتين بأحداث تظاهرات سبتمبر/أيلول 2019 التي كانت أكبر تظاهرات يشهدها حكم السيسي على مدى سبع سنوات. وأدى ذلك إلى خفض عدد المعتقلين على خلفية هذه التظاهرات إلى أقل من مائة معتقل، بعدما كان العدد أكثر من ألفين نهاية العام الماضي.
لكن بحسب مصادر أمنية وأخرى حقوقية تتولى الدفاع عن بعض المتهمين في القضيتين وقضايا أخرى صدرت فيها قرارات إخلاء سبيل على مدى الشهرين الأخيرين، فإنه قد تمّ تدوير أكثر من مائتي معتقل ممن أخلي سبيلهم على ذمّة قضية أحداث سبتمبر، فنقلوا إلى قضايا جديدة تدور أحداثها المزعومة في تحريات الأمن الوطني داخل السجون، وتدعي أن هؤلاء المعتقلين كانوا يعقدون اجتماعات تنظيمية داخل السجن ويتفقون على أنشطة إجرامية ترمي إلى قلب نظام الحكم.
وتمثّل هذه الاتهامات التي تدور وقائعها داخل السجن، ظاهرة جديدة متصاعدة في تحريات الأمن الوطني وتحقيقات نيابة أمن الدولة العليا. وكانت هذه الاتهامات في البداية محصورة في السياسيين والنشطاء المعروفين، أو الذين يتخذ النظام موقفاً عدائياً وخاصاً منهم، مثل عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد القصاص وعلاء عبد الفتاح وأحمد دومة وحتى شادي أبو زيد ومحمد عادل وشريف الروبي. وكان مفهوماً كذلك أن يتم افتعال قضايا بمثل تلك الاتهامات لهم، ليضمن النظام بقاءهم في السجون لأطول فترة ممكنة. لكن تعميم تلك الاتهامات بوقائع غير منطقية على معظم المتهمين في القضايا ذات البعد السياسي، ينذر باستمرار حبس الآلاف من المواطنين غير المؤدلجين، والذين لا تساندهم منظمات حقوقية كبيرة داخل أو خارج مصر، إلى أجل غير مسمى.
وأضافت المصادر أن الاتهامات الخاصة بقضايا التدوير الجديدة التي تدور أحداثها في السجون تتضمن مجموعة من الأنشطة المزعومة مثل: عقد اجتماعات تنظيمية لحساب جماعات إرهابية، والتواصل مع منظمات حقوقية ووسائل إعلام، ونشر أخبار ومعلومات كاذبة عما يحدث في السجون، والتخطيط للتظاهر وأعمال عنف، وتشكيل جماعات إرهابية تابعة لجماعات محظورة نشطة خارج السجون، والتخطيط لارتكاب أعمال عدائية داخل السجون. وذكرت المصادر أن مثل تلك الاتهامات تتناقض مع واقع أن معظم المتهمين الذين تمّ تدويرهم في القضايا الجديدة، محبوسون في سجون شديدة الحراسة، وبالأخص مجمع سجون طره وسجن الوادي الجديد. وتتّبع في هذه السجون، خصوصاً هذا العام بسبب جائحة كورونا، إجراءات قاسية تمنع اختلاط المعتقلين على مدار اليوم، وتقلل فترات التريض والتواجد داخل مقصف السجن، كما تمنع اختلاطهم بالزوار في الشهور الثمانية الأخيرة.
وأوضحت المصادر أنه مع زيادة أعداد المعتقلين في أحداث سبتمبر الماضي، كانت إدارات السجون قد طلبت ترحيل عدد من المتهمين الماكثين منذ أحداث سبتمبر 2019، وهو ما ترتب عليه إخلاء سبيل العشرات منهم على النحو السابق ذكره. لكن الأمن الوطني في مرحلة لاحقة، أمر بإعادة معظم المتهمين المخلى سبيلهم جماعياً مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، متذرعاً بوجود اتهامات جديدة لهم، وأن بعض المعتقلين تمّ نقلهم إلى سجون أخرى في المحافظات لتلافي الزحام في سجون المنطقة المركزية والصعيد.
وأكدت المصادر أن السبب الوحيد للإبقاء على هذه الأعداد الضخمة من المعتقلين، لا سيما في قضية أحداث سبتمبر 2019، هو إصرار النظام على توجيه رسالة إرهاب وتخويف للمحيط الاجتماعي للمعتقلين والامتدادات الاجتماعية لجماعة "الإخوان المسلمين" والنشطاء اليساريين، في الوقت الذي يتاجر فيه بتسريب أنباء إخلاء السبيل على نحو يدعي به قرب حدوث انفراجة في سياساته القاسية للتعامل مع المجال العام.
وكشفت المصادر أن نيابة أمن الدولة العليا فتحت قضيتين جديدتين الشهر الماضي، تضمان أكثر من 70 معتقلاً كانوا متهمين في أحداث تظاهرات يناير/كانون الثاني 2020 وأحداث متفرقة أخرى وقضايا نشر أخبار كاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتنحصر الاتهامات في القضيتين على وقائع يزعم الأمن الوطني ارتكابها داخل السجون أيضاً، ما يعكس رغبة النظام في استمرار اعتماد هذه الطريقة لفترة أطول.
المقترحات المتداولة حول العودة لإصدار قرارات عفو لا تزال قيد الدراسة
وفي السياق، قال مصدر سياسي مطلع قريب من أجهزة النظام، إن المقترحات المتداولة حالياً داخل مكتب السيسي والاستخبارات العامة والأمن الوطني حول إمكانية العودة لإصدار قرارات عفو عن المعتقلين، لتحسين صورة النظام المتضررة بشدة من الأحداث الأخيرة، لا سيما بعد قرار البرلمان الأوروبي الأسبوع الماضي، لا تزال قيد الدراسة، نظراً لاختلاف وجهات النظر حول إصدار عفو بالتزامن مع تولي الرئيس المنتخب جو بايدن الحكم في الولايات المتحدة. ويرى بعض المقربين من السيسي أن هذه الخطوة ستكون إيجابية وموجهة للخارج، فيما يعتبر البعض الآخر أنها ستكون متاجرة مكشوفة وستسيء لصورة النظام في الداخل. وأوضح المصدر أن اللجنة التي كان السيسي قد شكّلها لترشيح أسماء المشمولين بالعفو، قدّمت منذ شهرين قوائم تضم أكثر من 700 معتقل، معظمهم من المدانين في قضايا تعود إلى أربعة أعوام على الأقل، ومن بينهم أيضاً عشرات المتهمين في تظاهرات سبتمبر 2019.
وقبل أزمة المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، كانت بعض السفارات الأوروبية قد أجرت اتصالات مع وزارة الخارجية للإعراب عن قلقها، لما أوضحته متابعة الأحداث من وضوح محاولة النظام عدم الاعتراف بالطبيعة الشعبية الواسعة والمعارضة للحراك الجماهيري الأخير، ومحاولة تصويره باعتباره تظاهرات فئوية شهدتها بعض المناطق وحسب، وهو ما كان العنوان الأبرز في ردود الخارجية المصرية خلال الاتصالات.
وخلال تلك الاتصالات، أعربت السفارات أيضاً عن قلقها بسبب ارتفاع عدد المواطنين المعتقلين على خلفية الأحداث، سواء خلال مشاركتهم في التظاهرات أو في إطار الحملات الأمنية للتخويف والحد من اتساع الحراك الشعبي. كما انتقدت البعثات الدبلوماسية بشدة استمرار حبس عشرات النشطاء السياسيين والحقوقيين ممن تم اعتقالهم قبيل وعقب أحداث سبتمبر 2019، وأبرزهم المتهمون في القضية المعروفة إعلامياً بـ"مجموعة الأمل"، والذين كانوا يحاولون التنسيق للمشاركة في انتخابات مجلس النواب التي ستبدأ الشهر الحالي، ومنعتهم السلطات من حقهم السياسي باعتقالهم.
وذكرت المصادر أن بعض الاتصالات التي جرت، تمّت بتنسيق بين بضعة عواصم، لتأكيد استمرار اهتمامها جماعياً بأوضاع حقوق الإنسان في مصر. ويطرح ذلك تساؤلاً عن احتمالات تطوير الموقف على المستوى السياسي أو الاقتصادي، لكن المصادر استبعدت ذلك حالياً في ظل ارتفاع وتيرة التعاون الاقتصادي والعسكري بين القاهرة وجميع العواصم الغربية الرئيسية. إلا أنها أشارت إلى وجود نقاشات في عواصم أوروبية مختلفة، كبرلين وروما، لمراجعة مستوى التعامل الأمني مع الأجهزة المصرية والتنسيق في مجالات التدريب والمنح والمساعدات المالية واللوجستية، باعتباره من الملفات التي يجب أن تظهر فيها العواصم الأوروبية سلوكاً مغايراً لما تبديه في ملفات التعاون العسكري والاستثمار.
يذكر أن الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن كان قد انتقد في ما مضى أوضاع المعتقلين في مصر، فوجّه إدانة لوفاة المواطن الأميركي من أصل مصري مصطفى قاسم في سجنه المصري مطلع العام الحالي، وانتقد تخاذل إدارة دونالد ترامب في التعامل مع تلك القضية. وعاد في تغريدة شهيرة في يوليو/تموز الماضي، لشن هجوم مزدوج على ترامب والسيسي، فحمّل الأول مسؤولية اعتقال الشاب محمد عماشة لمدة 468 يوماً في السجون المصرية قبل الإفراج عنه بضغط أميركي، ومن جهة ثانية هدّد بالتعامل بشكل مختلف مع السيسي حال فوزه بالرئاسة، بقوله "لا مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل".
وشهدت السجون المصرية هذا العام أوضاعاً صعبة في ظل جائحة كورونا وتوترات أخرى بسبب سوء المعاملة والإهمال الطبي وزيادة حالات الوفاة ومنع الزيارات لنحو خمسة أشهر، ووضع آلية جديدة تقوم على التسجيل المسبق لراغبي الزيارة، وهو ما سمح بالتمادي في منعها بالنسبة لمعظم المعتقلين في القضايا ذات الطابع السياسي والمتهمين بالانضمام لتنظيمات وجماعات ومعارضة نظام الحكم، استمراراً للتمييز السلبي ضد الفئة ذاتها منذ بدء الجائحة. وكان المعتقلون في تلك القضايا هم الأقل استفادة من قرارات العفو المتتالية التي صدرت بين مارس/آذار ويوليو/تموز الماضيين، والتي شملت أكثر من 10 آلاف سجين، غالبيتهم الكاسحة من المحكومين في قضايا جنائية عادية، ومنهم المئات من الحاصلين على أحكام بالمؤبد في قضايا تصنف بأنها خطيرة على الأمن العام.