بعيدًا عن النقاشات الجارية داخل المجتمع الإسرائيلي هذه الأيّام؛ حول جهاز القضاء و"إضعافه" من قبل الحكومة الإسرائيليّة اليمينيّة الجديدة، هناك أمر متّفق عليه بين المعسكرين المنقسمين في إسرائيل، وهو تشديد الأحكام ومعاقبة معتقلي هبّة الكرامة، الذين بدأت محاكمتهم خلال ولاية الحكومة السابقة وتستمر بنفس النهج مع الحكومة الحالية.
لم تكن الهبّة الشعبيّة التي انطلقت في كل فلسطين في مايو/أيّار 2021، في أعقاب احتجاجات حي الشيخ جرّاح والقدس والعدوان على غزّة، حدثًا اعتيادياً بالنسبة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948. فالهبّة الشعبيّة السابقة الملتحمة مع كل الشعب الفلسطيني كانت قبل عقدين من الزمن خلال الانتفاضة الثانية عام 2000. وإن كان خلال هذين العقدين مسيرة طويلة من النضال والمواجهة مع المؤسسة الإسرائيليّة، أبرزها الحراك ضد مخطط برافر عام 2013، إلا أن هبّة الكرامة عام 2021، مثّلت حالة سياسيّة مختلفة عن الحدود المرسومة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وتطلعًا نحو وحدةٍ فلسطينيّةٍ في كافة الجغرافيّات المجزّأة بواقع الاستعمار، وطرحت سيناريوهات مستقبليّةً مقلقةً جدًا بالنسبة للمؤسسة الإسرائيليّة، التي شرعت بوضع مخططات لتفادي الهبّة القادمة وقمعها سريعًا.
جيل جديد للهبة
تبدو قضية معتقلي هبّة الكرامة كقضيّة متروكة، فلا أحزاب تتبناها، ولا لجنة المتابعة للجماهير العربيّة تضعها على سلم عملها
تفاجأت إسرائيل من مشاركة مواطنيها الفلسطينيين في الهبّة، ولم تعتقد أن حراكهم في الداخل سيؤثر على فاعلية الجيش الإسرائيلي خلال عدوانه على غزة، في العملية المسمّاة "حارس الأسوار"، التي سعت لإنهائها سريعًا كي تتفرغ للسيطرة على "فوضى الداخل"، بحسب تصريحات مسؤولين إسرائيليين في حينها.
حملة إثبات وجود
لتحقيق ذلك، شنت الشرطة الإسرائيليّة بالتعاون مع المخابرات؛ خلال هبّة الكرامة وبعدها، حملة اعتقالات واسعة، وصلت بحسب بعض التقديرات إلى ألفي شخص، كان هدفها خلق سياسة ردع وإثبات وجود داخل البلدات العربيّة. اتّضح من التهم التي كانت تقدّمها الشرطة للنيابة العامّة بهدف تمديد الاعتقال لتبيان "قانونية" إجراءاتها، أنّها تهمٌ متشابهة تشابهاً كبيراً للكثير من المعتقلين، لدرجة أنها كانت نسخ لصق كما وصف الأمر محامون عديدون، وذلك بسبب الضغط الكبير الذي سببه اعتقال هذا الكم من الأشخاص.
اختلفت أساليب الشرطة والمخابرات في انتزاع الاعترافات خلال التحقيق مع معتقلين عدة، لاستخدامها لاحقًا في المحاكمات. سُمح للشرطة بتمديد فترة الاعتقال أسابيع وحتى أشهر، ومورست وسائل ضغط نفسيّة وجسديّة، ومنع المحامون والعائلات من لقاء المعتقلين لفترة من الزمن. غالبية المعتقلين لم يعرفوا حقوقهم كمعتقلين، مثل عدم التجاوب مع التحقيق قبل لقاء محامٍ، ولم يخبروا أساليب الشرطة والمخابرات الإسرائيليّة في انتزاع الاعترافات.
محاكمات مستمرة
ذكرت النيابة العامة الإسرائيليّة في تقريرها مؤخرًا أن المتّهمين الـ 616؛ تبلغ نسبة العرب من بينهم 89%، قد اعتُقِلوا منذ أبريل/نيسان 2021، لافتة إلى أنه "خلال الفترة المذكورة، تمّ تقديم لوائح اتهام بشأن 108 أحداث ضدّ 239 متهمًا، في ظروف مشددة لعمل إرهابيّ أو دوافع عنصرية، 85% منهم (عرب) و15% يهود".
تتواصل في الأشهر الأخيرة محاكمة مئات الشبّان، الذين يواجهون لوائح اتّهام من قبل النيابة العامّة الإسرائيليّة، تتعلق بمشاركتهم في هبّة الكرامة. تتنوع التهم ما بين الاعتداء على قوات الشرطة، أو إلقاء حجر، أو الاعتداء على ممتلكات عامّة، أو الاعتداء على يهود على خلفية قومية وغيرها. وتتنوع الأحكام بالسجن ما بين أشهر عدّة وسنوات. هناك من حُكم عشر سنوات بتهمة إلقاء حجر!
غياب الاحتضان
تبدو قضية معتقلي هبّة الكرامة كقضيّة متروكة، فلا أحزاب تتبناها، ولا لجنة المتابعة للجماهير العربيّة تضعها على سلم عملها، إذ اقتصر عمل الأحزاب ولجنة المتابعة على بضعة بيانات وزيارات. حتّى الحراكات الشبابيّة المنخرطة في هبّة الكرامة، اختفى نشاط الكثير منها. لعل أبرز الحراكات الشعبيّة التي انطلقت لتبني قضية المعتقلين كان "صندوق الكرامة"، الذي هدف لجمع تبرعات من الناس لدعم عائلات المعتقلين، كون الرافعة من قبل محامين لهذه الملفات ستكون مكلفة جدًا. نجح الصندوق بجمع مئات آلاف الشواكل من خلال حملة محليّة ودوليّة، إلا أن ما جُمع غير كاف لتغطية تكاليف كافة المعتقلين.
مثّلت هبّة الكرامة حالة سياسيّة مختلفة عن الحدود المرسومة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وتطلعًا نحو وحدةٍ فلسطينيّةٍ في كافة الجغرافيّات المجزّأة بواقع الاستعمار
يواجه اليوم مئات الشباب مصيرهم وحدهم داخل المحاكم الإسرائيليّة المنحازة دومًا ضد الفلسطيني، معهم عائلاتهم وبدعم من بعض الناشطين وقلّة من وسائل الإعلام. وتبدو المؤسسة الإسرائيلية ماضية في تشديد الأحكام على مواطنيها العرب، وتخفيفها على اليهود الذين اعتقلوا على خلفيات مشابهة، وتستعد لـ "حارس الأسوار 2" بحسب ما يصرّح به وزير الأمن الإسرائيلي في الحكومة الجديدة إيتمار بن غفير، الداعي إلى إقامة "حرس وطني" لقمع الهبّة القادمة، التي تبدو وكأنها أقرب للاندلاع مما كان يُعتقد.