تأخذ معركة الذاكرة والتاريخ، بين الجزائر وفرنسا، أبعاداً مختلفة ومتعددة الاتجاهات والوسائل، خاصة في المرحلة الأخيرة التي أصبح فيها ملف الذاكرة أكثر حضوراً في متن العلاقات بين البلدين، وفي السجال السياسي والإعلامي، بسبب توجّه جزائري لافت نحو التركيز على استعادة الحقوق التاريخية.
وفي هذا السياق بات واضحاً أنّ السلطات الجزائرية تنتقي بخلفية سياسية مناوئة لكل مخلفات الاستعمار الثقافية والدينية، أماكن إقامة منشآت ذات رمزية دينية، وأناصب تذكارية، واختيار المسميات والتسميات.
مكاناً بمكان، ورمزاً برمز، وقراراً بقرار، تعمدت السلطات الجزائرية اختيار أعلى تلة جبل مرجاجو، بمدينة وهران غربي الجزائر، لإقامة تمثال للأمير عبد القادر الجزائري، مع ما يمثله الأخير من رمزية في الكفاح ضد الاستعمار مدة 17 عاماً (من 1830 وحتى 1847)، ولقيمته الدينية بوصفه متصوفاً ورمزاً للجهاد الديني والفكري ضد الاستعمار، متجاوزاً في ارتفاعه، كلاً من كنيسة مريم العذراء، والحصن الإسباني سانتا كروز، في نفس الجبل المطل على وهران، وهي منطقة ظلت مركزاً للقوات المستعمرة.
وأعلنت السلطات الجزائرية، الخميس الماضي، قرار بناء تمثال ضخم للأمير عبد القادر، على تلة مرجاجو بعلو 42 متراً، يفوق في علوه رمز ريو دي جانيرو البرازيلي، بتكلفة تبلغ نحو 9.5 ملايين دولار، يتضمن إقامة متحف خاص للأمير عبد القادر. سيرتكز التمثال المقرر بناؤه على خمس دعائم تدل على أركان الإسلام الخمسة، وسيف الأمير سيكون مزوداً بأشعة ليزر تشير إلى اتجاه القبلة.
قبل ذلك كانت السلطات قد اختارت مكان إقامة مسجد الجزائر الأعظم، الذي افتتح في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، في منطقة المحمدية (سميت كذلك نسبة إلى النبي محمد) في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية، على أنقاض مدرسة الآباء البيض، التي أقامها الكاردينال الفرنسي شارل مارسيال لافيجري زمن الاستعمار الفرنسي دعماً لحملة التبشير، وهو اختيار يستهدف تثبيت رمزية دينية وسياسية تعزز انتصار الجزائر في استعادة كامل هويتها، وهزيمة محاولات الطمس والمسخ الهوياتي الذي مارسته فرنسا في الجزائر على مدار قرن ونيف من الزمن، ما بين عام 1830 وحتى استقلال البلاد عام 1962.
كما قامت بتشييد مسجد "رباط الطلبة"، في نفس التلة، قبالة الكنيسة الموجودة هناك، ليعلو بقليل كنيسة مريم العذراء، ودشن هذا المسجد، في ديسمبر/ كانون الأول 2018، في نفس اليوم الذي جرى فيه تطويب الرهبان المسيحيين، الذين اغتالتهم الجماعات المسلحة منتصف التسعينيات.
يعتقد الباحث واالكاتب المتخصص في التاريخ والتصوف، بومدين بوزيد، أنّ الدولة الجزائرية، تحاول خلق رمزية دينية وطنية تغطي على بعض الرمزيات الاستعمارية، وقال، في تصريح لـ"العربي الجديد"، اليوم السبت، إنّ "رمزية قرار إقامة تمثال الأمير في وهران "له خلفية سياسية، وهو رد غير مباشر على تمثال الأمير في فرنسا الذي تحدث عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تنفيذاً للتقرير الذي قدمه المؤرخ الفرنسي بنيامين ستور ومحاولة السلطة الفرنسية، وبعض المؤرخين، إعطاء الانطباع بأنّ الأمير صديق فرنسا، وجسر لتصالح الذاكرة والاعتراف"، مشيراً إلى أنّ القرار أيضاً "جهد استباقي ضد محاولات إساءة سياسيين لتاريخ ونضال الأمير (تمت محاكمة سياسي جزائري بسبب تعرضه للأمير)".
ويذهب بوزيد إلى أنّ اختيار المكان "له أيضاً خلفية تخص النزاع اليوم مع إسبانيا، حيث يتواجد في المنطقة، المقرر إقامة التمثال فيها، الحصن الإسباني، والقلعة، وبعض الآثار الإسبانية في وهران التي تهتم بها إسبانيا الرسمية".
ويوضح بوزيد السياقات التي تمت فيها بعض هذه الاختيارات، فـ"الجامع الأعظم لم يكن مقرراً له أن يكون هناك، لكن المكان اختير بعد تصاعد التبشير أواسط 2005، وهو رد على المسيحية التي ارتبطت بالاستعمار والكاثوليكية التي ساعدته، والتي يمثلها الكاردينال لافيجري، دون أن يكون ذلك موقفاً سلبياً من المسيحية في حد ذاتها، بدليل أنه هناك في المقابل اهتمام رسمي مثلاً بالقديس أوغسطين وبكنيسته في عنابة، وقد أشرفت شخصياً العام الماضي على ملتقى حول القديس أوغسطين بسوق أهراس شرقي الجزائر، وتكريم للكاثوليكيبن الوطنيين أمثال هنري تيسيي وغيره".
وقبالة ميناء الجزائر، الذي شحنت منه القوات الاستعمارية المقاومين الجزائريين لنفيهم إلى كاليدونيا الجديدة، وغويانا بأميركا الجنوبية ومارغريت بفرنسا، وإلى الشام والكونغو برازافيل، أقامت السلطات الجزائرية جدارية "المنفيين" لتظهر قصة حشد من أبطال الجزائر وهم يُساقون إلى السفينة، تذكيراً بجريمة فرنسا في النفي القصري للجزائريين إلى أراضٍ بعيدة، وقد تم تدشين هذا المعلم التاريخي من قبل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في 5 يوليو/ تموز 2021، حيث كتب تحتها عبارة "وفاءً وعرفاناً لأبنائها المنفيين إلى أقاصي الأرض، تنحني الأمة الجزائرية بكل خشوع أمام أرواحهم الطاهرة".
ويعتبر الكاتب وأستاذ التاريخ في جامعة خميس مليانة غربي الجزائر، أحمد بن يغرز، في حديث لـ"العربي الجديد"، اليوم السبت، أنّ مثل هذه الخطوات "تدخل ضمن معركة الرمزية التاريخية والهوياتية للجزائر، وهي مسألة لها أهميتها، بل هي تمثل قلب هذا التفاوض غير الموصوف، وما تتحفظ أن تقوله الألسن الناطقة لاعتبارات كثيرة، تقوله هذه الحركات الرمزية، فجامع الجزائر في المحمدية (لافيجري سابقاً) رسالة واضحة، والإعلان عن إقامة تمثال للأمير في وهران يكون الأعلى في العالم رسالة أخرى، والتوسع في استعمال اللغة الإنكليزية لا يقل أهمية".
وأضاف بن يغرز أنّ "توجه السلطات لاختبار مواقع لإقامة (مقامات الذاكرة) أو إنجاز معالم ذات رمزية كجامع الجزائر، أو تمثال الأمير عبد القادر، لا شك أن لذلك علاقة بمحاولة الدولة الجزائرية إبقاء ملف الذاكرة حياً، والدفع باتجاه جعله إحدى أدوات الدبلوماسية في العلاقة مع فرنسا خصوصاً"، مضيفاً أن "الاهتمام بالتاريخ والذاكرة أمر له أهميته في تمتين الجبهة الداخلية في مواجهة التحديات التي تفرضها المرحلة، بما تشهده من تحولات دولية، قد تكون لها انعكاسات على سيادة واستقلال واستقرار الأوطان والشعوب".