قطاع غزّة خلال العدوان الحربي الحالي من قبل سلطات الاحتلال الاسرائيلي اهتمامًا دوليًا، كون هذه الجرائم لم يسبق لها مثيلٌ في الواقع المعاصر؛ بالنظر إلى أعداد الضحايا المرتفع جدًا في الوقت الزمني والنطاق الجغرافي الضيق جدًا الذي ترتكب فيه هذه الجرائم. وعليه، فإنّ جرائم الإبادة الجماعية المرتكبة بحقّ المدنيين في قطاع غزّة قد حركت الشارع العالمي من أجل وقفها، مع مطالبة الكثير من التظاهرات حول العالم بوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين في غزّة، وفرض عقوباتٍ جنائيةٍ على قيادة سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
عكست الجرائم الإسرائيلية المرتكبة فيانطلاقًا من هذه المطالب استجابت حكومة دولة جنوب أفريقيا لرغبة مواطنيها، إلى جانب مسؤوليتها برعاية الأطراف لالتزاماتهم باتّفاقيات القانون الدولي، الموقع عليها من قبل الدول في فضاء المجتمع الدولي. وقد حُركت الدعوى القضائية من قبل جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية متهمةً إسرائيل فيها بانتهاك أحكام اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948. لم يقف هذا الأمر عند هذا النوع من الحراك القانوني، بل امتد ليشمل حكومات الدول الداعمة لسلطات الاحتلال الحربي الإسرائيلي ماديًا وعسكريًا في ارتكابها جرائم الإبادة الجماعية ضدّ المدنيين العزّل في قطاع غزّة. في هذا المقال سوف نسلط الضوء على التحركات القانونية والقضائية تجاه داعمي سلطات الاحتلال الإسرائيلي في عدوانها على قطاع غزّة.
التحذير من التواطؤ في الإبادة الجماعية
في البداية، اختلفت طرق الملاحقة القانونية لداعمي سلطات الاحتلال الإسرائيلي في جرائمها المرتكبة في قطاع غزّة، فمنها ما أخذ طريق التوعية والتحذير من التواطؤ في الإبادة الجماعية، وأخرى أخذت طريق الدعوى القضائية أمام الأجسام القضائية الوطنية في بعض الدول، والتي سوف نستعرضها في هذا السياق. لقد أرسلت منظّماتٌ حقوقيةٌ إقليميةٌ ودوليةٌ رسائل شديدة اللهجة إلى وزراء خارجية دولٍ عدّة، تنبههم فيها إلى العواقب القانونية المحتملة للتواطؤ في جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني. وقد أكّدت هذه الرسائل الموجهة إلى وزراء خارجية دول الدنمارك وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا والسويد والمملكة المتحدة وأستراليا وكندا، كلًّا على حدّة، على المسؤوليات القانونية للدولة والمسؤولية الفردية للمسؤولين في منع الإبادة الجماعية وتداعيات التواطؤ في مثل هذه الجريمة. وتشير الرسائل إلى التبعات القانونية للسياسات والإجراءات التي اتخذتها هذه الدول دعماً للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني. وقد حثت المنظّمات الحكومات المعنية على إعادة النظر في مواقفها وتصرفاتها التي قد تفسر على أنّها تأييدٌ لنوايا إسرائيل في الإبادة الجماعية وعملياتها العسكرية في غزّة، وتقدمها للمساءلة الجنائية أمام المحاكم الوطنية والدولية.
قد تشهد الجلسات القادمة للمفوضية الأوروبية قراراتٍ جوهريةً، مثل تعليق الاتّفاقيات الثنائية بين الاتّحاد وسلطات الاحتلال الإسرائيلي
في سياقٍ متصل، رفعت دعوى قضائية في الولايات المتّحدة أمام المحكمة الفيدرالية (المحكمة الاتحادية) في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، ضدّ كلٍّ من الرئيس الأميركي جو بايدن، ووزيري الخارجية أنتوني بلينكن، والدفاع لويد أوستن، بتهمة تقديمهم دعمًا غير مشروطٍ للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة. جاءت هذه الدعوى على اعتبار أنّ من مسؤوليات إدارة بايدن منع الإبادة الجماعية، بموجب القوانين والأعراف الدولية، والقوّة التي تملكها في بسط الأمن والسلم الدوليين، وقدرتها على تكبيل إسرائيل في عمليتها العسكرية ضدّ المدنيين في قطاع غزّة. وقد وَجهت الوثيقة الاتهام للمدعى عليهم بأنهم متورطون في رفض استخدام نفوذهم الواضح والكبير لوضع شروطٍ، أو حدودٍ للقصف الإسرائيلي الكبير، رغم تزايد الأدلة على السياسات الإسرائيلية الموجهة نحو إلحاق ضررٍ جماعيٍ بالسكان الفلسطينيين في غزّة، بل تماديهم في التواطؤ مع الجرائم المرتكبة عبر استخدام حقّ النقض "الفيتو" ضدّ إجراءات الأمم المتّحدة التي تدعو إلى وقف إطلاق النار، بخلاف الدعم الدولي الساحق للقرار.
تحقيقات سكوتلاند يارد تدعم المحكمة الجنائية الدولية
أما في المملكة المتّحدة فقد فتحت شرطة العاصمة البريطانية لندن، في يناير/كانون الثاني من هذا العام، تحقيقاً بشأن الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزّة، عُرف بـ"تحقيق سكوتلاند يارد". إذ أصدرت شرطة لندن نداءً إلى الشهود الذين يمرون عبر مطارات المملكة المتّحدة باللغة الإنجليزية، والعربية، والعبرية للإبلاغ عن جرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية المرتكبة في غزّة، الأمر الذي تسبب في توتراتٍ دبلوماسيةٍ بين إسرائيل وبريطانيا، ما دفع تل أبيب إلى الاحتجاج والتعبير عن استيائها من هذه الأمور. لم تقف شرطة لندن عند هذا الحد، بل أعلنت عبر متحدثها الرسمي بأنّها تدعم تحقيق المحكمة الجنائية الدولية بشأن الجرائم في قطاع غزّة، وأنّ أيّ معلوماتٍ تُقيَّم على أنّها ذات صلةٍ بالتحقيق الجاري، الذي تجريه المحكمة الجنائية الدولية في الوضع الفلسطيني، ستحول بعد ذلك إلى المحكمة الجنائية الدولية حسب الاقتضاء.
في فرنسا لم يكن الوضع بعيدًا عن بريطانيا، في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، قدمت شكوى جنائية من قبل بعض النواب الفرنسيين، أمام النيابة العامة الفرنسية ضدّ أكثر من 4000 جندي إسرائيلي من أصولٍ فرنسيةٍ، بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزّة والضفّة الغربية المحتلة. إلى جانب تحركات "ائتلاف القانونيين من أجل احترام فرنسا التزاماتها الدولية"، و"لجنة المحامين من أجل احترام فرنسا تعهداتها الدولية" عبر رفع دعاوى ضدّ مسؤولين، وشركات أسلحة فرنسية لتورطهم في تصدير أسلحةٍ لإسرائيل بشكلٍ يساهم في قتل المدنيين في قطاع غزّة.
في منتصف شهر فبراير/شباط من العام الحالي، حركت دعوى قضائية ضدّ نائب ألماني، بتهمة التحريض على الكراهية، وإنكار جرائم الحرب في القصف الإسرائيلي على قطاع غزّة. ورَفعت الدعوى مجموعتان متضامنتان مع الفلسطينيين، هما "فلسطين بتحكي"، و"الصوت اليهودي من أجل السلام العادل في الشرق الأوسط" ضدّ فولكر بيك، النائب البرلماني ورئيس الجمعية الألمانية الإسرائيلية وقالت المجموعتان إن هذه هي الخطوة الأولى على طريق المحاسبة القانونية للشخصيات العامة، التي تدلي بتصريحاتٍ مؤيدةٍ للإبادة الجماعية علنيةٍ.
بداية الاستجابة القضائية
لكن، أخذ مسار العدالة في هولندا مجراه سريعًا، ففي ديسمبر/كانون الأول 2023 اتهمت منظّماتٌ حقوقيةٌ، في دعوى قضائية رفعتها أمام القضاء الهولندي ضدّ الحكومة بالمساهمة في انتهاكات القانون الدولي في غزّة، مشيرةً إلى تزويدها للسلطات الإسرائيلية بالقطع لمقاتلات "إف-35". وقد انتهت المحكمة في حكمها الصادر في 12 فبراير/شباط 2024 بإلزام السلطات الهولندي بوقف تصدير قطع غيار مقاتلات إف-35 إلى إسرائيل، وذكرت المحكمة مخاطر واضحةً لوجود انتهاكاتٍ للقانون الدولي من قبل إسرائيل بحقّ المدنيين في قطاع غزّة. إضافة إلى ذلك، هناك دعوىً قضائيةٌ أمام القضاء الهولندي ضدّ خمسة من مواطنيها من مزدوجي الجنسية، ممن يخدمون في الجيش الإسرائيلي، ويُتَهمون بالمشاركة مع الجيش الإسرائيلي في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ومختلف أشكال الانتهاك للقانون الدولي.
كما أن طرق الحراك القانوني ضدّ إسرائيل وجرائمها في غزّة لم تقف عند حدّ الدعاوى القضائية، بل امتدت لتشمل مراجعة الشراكات الداخلية مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ومدى الامتثال للشراكات التعاقدية في إطار اتّفاقات حقوق الإنسان. فقد طلب كلٍّ من رئيسي وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز، وأيرلندا ليو فارادكار من المفوضية الأوروبية إجراء "مراجعةٍ عاجلةٍ" للاتّفاق بين الاتّحاد الأوروبي وإسرائيل، ومدى امتثال الأخيرة لالتزاماتها في مجال حقوق الإنسان، في ضوء تفاقم الأزمة الإنسانية في قطاع غزّة، والانتهاكات المحتملة لحقوق الإنسان والقانون الدولي، وعليه قد تشهد الجلسات القادمة للمفوضية الأوروبية قراراتٍ جوهريةً، مثل تعليق الاتّفاقيات الثنائية بين الاتّحاد وسلطات الاحتلال الإسرائيلي. الجدير ذكره هنا؛ أنّ اتّفاقية الشراكة بين الاتّحاد الأوروبي وإسرائيل ساريةٌ منذ عام 2000، وهي الأداة القانونية الرئيسية التي تحكم العلاقات الثنائية بين الشريكين، وتغطي التجارة والتكنولوجيا والعلوم والابتكار ومكافحة معاداة السامية والعنصرية، من بين مواضيعٍ أخرى.
إمكاناتٌ مستقبليةٌ حول ملاحقة إسرائيل وداعميها أمام المحاكم الوطنية
لقد أسست الدعوى القضائية التي حركتها دولة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، والقضايا الأخرى التي حركت من قبل بعض البرلمانيين، والمؤسسات والهيئات الحقوقية والتضامنية لعلو الأصوات وتشجيعها على المطالبة بمعاقبة إسرائيل وقيادتها وداعميها من قادة الدول الحليفة لنظام الإبادة في إسرائيل قضائيًا عن جرائمه التي ترتكب حاليًا خلال العدوان الحربي في قطاع غزّة. هذا الأمر الذي سيجعلنا في الأيّام القادمة أمام تحركاتٍ قانونيةٍ، تشمل إعداد دعاوى وملفات قضائية، من أجل امتثال هؤلاء المجرمين وداعميهم للملاحقة القانونية أمام المحاكم الوطنية. على الرغم من أنّ هذه الخطوات لن تكون في القريب العاجل، بل سوف تتزامن مع تزايد تفاعل محكمة العدل الدولية في دعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، ومباشرة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزّة.
ستواجه هذه الخطوات والتحركات القانونية (ضدّ قيادة نظام الإبادة في إسرائيل وداعميه) الكثير من العقبات، كالتضييق والتسويف الإجرائي من قبل بعض الأنظمة القانونية في الدول الحليفة لإسرائيل، أو التي لديها علاقاتٌ استراتيجيةٌ مع إسرائيل وحلفائها الغربيين، تحت إطار الحصانات، والمعاملة بالمثل، والدفع بعدم الاختصاص القضائي، وعدم مساءلة الشخص عن الجرم مرتين، بحجة أنّ القضايا منظورةٌ أمام محاكم أخرى (دولية أو وطنية). لكن، هذه العقبات المتوقعة ليست جديدةً على نشطاء حقوق الإنسان، في ملاحقة مجرمي الحروب، إذ لديهم من الصبر والآليات والخبرة القانونية ما يكفي للتغلب عليها، والحصول على أحكامٍ قضائيةٍ تدعم مطالبهم، كما حصل في العديد من المتابعات لجرائم الحروب في البوسنة وماينمار ودارفور وغيرها الكثير.