يجتمع القضاة التونسيون، اليوم السبت، مجدداً، بدعوة من "جمعية القضاة التونسيين"، لبحث الخطوات الجديدة لمواجهة قرار الرئيس التونسي قيس سعيّد بحل المجلس الأعلى للقضاء. ويأتي هذا الاجتماع بعد سلسلة احتجاجات، بدأت بإضراب عام يوم الأربعاء الماضي، وانتهت بوقفة احتجاجية حاشدة، أول من أمس الخميس، بدعوة أيضاً من الجمعية، المعروفة بنضالاتها التاريخية منذ زمن الاستبداد، ودفاعها عن استقلالية القضاء.
وتقود هذه الجمعية اليوم المعركة الجديدة ضد قرارات سعيّد، بحكم تمثيلها لشريحة واسعة من القضاة، ولعل مما له رمزية أن يتزامن ذلك مع احتفال القضاة هذه الأيام بالذكرى الـ32 لنشأة "جمعية القضاة التونسيين"، وذلك في 11 فبراير/ شباط عام 1990.
وهو التاريخ الذي أعاد القاضي أحمد الرحموني، الرئيس السابق والشرفي لـ"جمعية القضاة التونسيين"، التذكير به، أمس الجمعة، عبر حسابه بموقع "فيسبوك".
تقود "جمعية القضاة التونسيين" المعركة الجديدة ضد قرارات سعيّد
وقال الرحموني في منشور: "لا شك أن القضاة، مهما اختلفوا، يتفقون على ارتباطهم العاطفي والتاريخي بجمعية القضاة التونسيين التي ساهمت عبر أجيالها المختلفة في الدفاع، ولو بتفاوت، عن المصالح المعنوية والمادية للقضاة".
وأضاف "ليس بعيداً في التاريخ ما دفعه مناضلو الجمعية والمتعاطفون معها، كثمن طبيعي، دفاعاً عن استقلال القضاء، وعن أفكارهم التي آمنوا بها على امتداد عشرين سنة من حكم الدكتاتورية، وهي اليوم (الجمعية) تخوض معركة جديدة دفاعاً عن المجلس الأعلى للقضاء ودستور البلاد وسيادة القانون".
الصراع يتصاعد بين سعيّد ومجلس القضاء الأعلى
ويجتمع القضاة، اليوم السبت، لبحث الخيارات الفعلية المتاحة أمامهم، بعد تأكيد الرئيس قيس سعيّد، أول من أمس الخميس، أنه "سيتم إصدار مرسوم بحل المجلس الأعلى للقضاء وتعويضه بمجلس آخر"، وذلك في ردّ على ما وصفه بـ"تشكيك البعض'' في نيته حل المجلس.
وقال سعيّد خلال افتتاح جلسة مجلس الوزراء: ''ليكن واضحاً للجميع بأن هذا المجلس سيتم حله بمقتضى المرسوم الذي سينظر فيه مجلس الوزراء وسيتم تعويضه بمجلس آخر، ولا مجال للتشكيك في هذا الخيار، لأن الشعب يريد تطهير البلاد، وتونس يجب أن تطهر، ولا يمكن تطهيرها إلا بتطهير القضاء".
ويأتي تشديد سعيّد على قرار حل المجلس الأعلى للقضاء بعد أن كانت وزيرة العدل ليلى جفّال قد أكدت، قبل ذلك بيوم، أن الرئيس لن يحل المجلس، بل سيغيّر تركيبته وقانونه، بما يعني أن سعيّد دخل في تحد واضح للجميع ويسعى لتمرير ما يريده بالقوة.
ورد المجلس الأعلى للقضاء في تونس، في بيان مساء الخميس، بتجديد "رفضه المطلق المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية بمقتضى المراسيم، والتأسيس لوضع انتقالي يتعارض مع الدستور ومصلحة العدالة وحقوق المواطنين والضمانات الهيكلية والوظيفية المكفولة للقضاة".
واعتبر المجلس في بيانه أنه "بتركيبته الحالية، هو المؤسسة الدستورية الشرعية الوحيدة الممثلة للسلطة القضائية"، وأن "إحداث أي جسم انتقالي بديل له، هو في عداد المعدوم ولا أثر قانونياً له".
المسعودي: لا أتصور أن يشارك أي قاض في عضوية المجلس الجديد
كيانان لمنظومة العدالة التونسية؟
ويطرح هذان الموقفان احتمال أن يصل الوضع إلى لحظة تكون فيها منظومة العدالة في تونس ممثلة بكيانين متوازيين، وربما يتحوّل الأمر إلى قضاة تابعين للمجلس الأعلى للقضاء، وآخرين تابعين للمجلس الجديد الذي سينشئه سعيّد، خصوصاً أن كل مراسيم الرئيس غير قابلة للطعن أو المراجعة.
وعلّق مراد المسعودي، وهو رئيس "جمعية القضاة الشبان" (تأسست بعد الثورة)، على هذه الفرضية بالقول إن "المجلس الذي سيعلنه سعيّد سيكون موازياً، لأن المجلس الحقيقي يستند إلى القانون والدستور، أما المجلس الجديد فليس هناك ما يسنده قانونياً عدا مراسيم مؤقتة وضعها رئيس الجمهورية".
وشدد، في حديث مع "العربي الجديد"، على أنه "لا يمكن تنظيم سلطة في إطار مرسوم مؤقت، وبالتالي ليس لنا ثقة في أي مجلس آخر"، مضيفاً "لا أتصور أن يشارك أي قاض في عضوية هذا المجلس الجديد، وبالتالي إذا أراد سعيّد أن يحدث مجلساً، فليعيّن فيه من هم من غير القضاة".
وأوضح المسعودي أن قرارات سعيّد لا تلزمهم كقضاة، وهم ملتزمون بتطبيق القانون واحترام الدستور "فلا يستطيع قاض ألا يحترم القانون".
وأكدت "جمعية القضاة الشبان" في مؤتمر صحافي، أمس الجمعة، أنها "لن تصمت على قرار حل المجلس الأعلى للقضاء، وأن التصعيد قد يصل إلى الاستقالات الجماعية"، مشددةً على أن "سعيّد يقود ثورة مضادة".
ويتحدث متابعون عن إمكانية وجود صيغ أخرى للإصلاح إذا كانت هناك فعلاً رغبة حقيقية في ذلك، عوض نسف كامل منظومة القضاء وإعادة تشكيل أخرى "لا تكون دولة داخل الدولة" وتكون "وظيفة داخل السلطة لا سلطة مستقلة"، كما يقول الرئيس.
"جمعية القضاة الشبان": التصعيد قد يصل إلى الاستقالات الجماعية
تهميش قيس سعيّد لدور القضاة في "الإصلاح"
وفي السياق، قالت الكاتبة العامة لـ"جمعية القضاة الشبان" ليلى الدوس، في حديث مع "العربي الجديد": "لقد سبق لرئيس الجمهورية أن صرّح بأن من يريد الإصلاح مرحّب به، ونحن أيدينا ممدودة للإصلاح، فلماذا لم يتم التشاور مع المعنيين، ولماذا لا يتم تشريك القضاة في الإصلاح حول تعديل المنظومة القضائية حتى يكون المسار تشاركياً؟".
وأكدت الدوس مخاوفها من "تسييس عمل الهيئة المؤقتة التي ستقوم بمهام المجلس الأعلى للقضاء الحالي"، وتساءلت "لماذا لم تتم الدعوة لانتخابات مبكرة على مستوى هذا المجلس مثلاً، ولماذا لا تتم الدعوة لجلسة عامة واستشارة عامة للقضاة، باعتبارهم الأدرى بمعاناتهم وحاجياتهم في هذا السلك؟".
من جهته، قال وزير حقوق الإنسان الأسبق، القيادي في مبادرة "توانسة من أجل الديمقراطية" المحامي سمير ديلو، إن "إصلاح القضاء، إذا توفرت إرادة حقيقية لإصلاحه، لا يمكن أن يتم بطريقة انفرادية، بل بالتشاور مع القضاة وكل العائلة القضائية، لأن المجلس الأعلى للقضاء ليس مجلساً أعلى للقضاة فقط، والسلطة القضائية ليست وظيفة ولا تابعاً، بل هي ضمانة حقيقية لكل المواطنين".
وشدد ديلو، في حديث مع "العربي الجديد"، على أنه "لا يمكن وضع مجلس قضاء مؤقت، فإما مجلس أعلى مستقل ومنتخب، أو قضاء تابع للسلطة التنفيذية، ووقتها لا معنى لدولة القانون والمؤسسات".
سعيّد يسابق الزمن
لكن المتابع بدقة لتطورات هذه المعركة، يلاحظ تسرعاً واضحاً في خطوات الرئيس واستعجالاً في إنهائها، وكأنه يسابق الزمن الذي ينقضي منه بسرعة شديدة، قبل موعد الاستفتاء على الإصلاحات الدستورية في 25 يوليو/ تموز المقبل، والانتخابات المبكرة في 17 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، في إطار المسار الذي كان أعلن عنه سعيّد في 13 ديسمبر الماضي.
ومر شهران تقريباً منذ أن أعلن الرئيس عن هذا المسار، بينما المعارضة تتوسع يوماً بعد يوم، والضغوط الدولية تتزايد، فيما تتراجع كل المؤشرات الاقتصادية، إيذاناً ربما بالانهيار الذي سيعصف بكل شيء.
في السياق، أوضحت الرئيسة الشرفية لـ"جمعية القضاة التونسيين" روضة قرافي، في كلمة لها خلال وقفة احتجاجية للقضاة بقصر العدالة، أول من أمس، خلفية معركة سعيّد ضد القضاء.
وقالت "إن الرئيس يريد تصفية القضاة لتمرير قانون الصلح الجزائي"، مشيرةً إلى أن "الصلح الجزائي بمثابة بعث محكمة استثنائية، ولا وجود له في تصنيف القضاء التونسي. وموقف المجلس الأعلى للقضاء من هذا الأمر جعل الرئيس يسرّع في حل المجلس".
سمير ديلو: إصلاح القضاء لا يمكن أن يتم بطريقة انفرادية، بل بالتشاور مع القضاة وكل العائلة القضائية
وقانون الصلح الجزائي خاص بالمتورطين في الجرائم الاقتصادية والمالية. ويعتزم الرئيس التونسي، كما ذكر مرّات عديدة، إصدار مرسوم للصلح الجزائي مع هؤلاء المتورطين، وممن يتهمهم بنهب ثروات ومقدرات البلاد والملك العام طوال السنوات الماضية.
ويراهن سعيّد على مشروع الصلح الجزائي بهدف استعادة هذه الأموال وتوظيفها في تحقيق مشاريع استثمارية وتنموية في البلاد يتكفل بها كل من تورط في النهب.
وشددت قرافي على أنه "يجب على الجميع الانتباه إلى حقيقة أنه قد تم حلّ المجلس الأعلى للقضاء بالفعل وطرد أعضاؤه شر طردة، بعدما أغلق المجلس بالسلاسل"، لافتةً إلى أنه "تم تكريس الحلّ بالإعلان عن هيئة وقتية جديدة لتقوم بمهام المجلس الأعلى للقضاء، ثم سيتم سنّ قانون وقتي للمجلس، ولا نعلم كم سيدوم العمل بهذا القانون الوقتي".
وبينت أن "هذه الهيئة الوقتية، إذا تم تركيزها، قد تدوم 5 سنوات أو أكثر، وهي هيئة لفرض قضاء الرئيس على كل مفاصل القضاء التونسي"، مشيرةً إلى أن القضاء وفق الخطط الجديدة، سيصبح عمله "بالتعليمات".