أعلنت آدا كولاو، عمدة مدينة برشلونة؛ عاصمة إقليم كتالونيا وقلب إسبانيا النابض، منتصف فبراير/شباط الجاري، عن وقف اتفاقية التوأمة مع مدينة تل أبيب ومقاطعة الدولة العبرية، بسبب نظام الفصل العنصري الذي تمارسه ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة.
جاء القرار حافلاً بالدلالات التاريخية والفكرية والسياسية والإعلامية والاقتصادية، وأهم بكثير مما يبدو عليه، وستكون له بالتأكيد تداعيات كبرى، بما يشبه تدحرج كرة الثلج، خاصةً أن برشلونة، كمدينة وعاصمة إقليم كتالونيا التاريخي، ذات تأثيرٍ وحضورٍ كبيرٍ على كل المستويات القارية والدولية، وهي أول حاضرة مهمة في أوروبا والعالم تقرر وقف التعاطي مع إسرائيل بسبب ممارستها نظام الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني.
في حيثيات إعلانها القرار، أوضحت عمدة المدينة ورئيسة البلدية أن آلاف المواطنين وقعوا على العريضة للمطالبة به، كما مئات المنظمات الأهلية، وهيئات المجتمع المدني الإنسانية والحقوقية، إضافة بالطبع إلى التأييد الواسع له في برلمان كتالونيا، المنتخب طبعًا.
يجب تغيير نهج القيادة جذريًا، خاصةً بعد وصوله إلى نهاية الطريق، وفقدان القيادةِ الشرعيةَ والثقة
كذلك، أكدت العمدة كولاو أن القرار لا يستهدف شعبًا أو دينًا أو قوميةً بعينها، لقطع الطريق مسبقًا على أي اتهامات أو انتقادات زائفة، وبغرض تكريس حقيقة سعيه إلى إحقاق العدل ومساندة الشعب الفلسطيني، وعدم ترك الأخير وحيدًا في مواجهة آخر استعمار في العالم، الذي يمارس نظام فصلٍ عنصريٍ موصوف، لم يعد بالإمكان إخفاؤه أو تجميله.
يتُمكن ملاحظة ثلاثة معطيات أساسية ومهمة، تتمثل في التأييد الشعبي الواسع للقرار، ما يعني تفهم وتقبل الرواية الفلسطينية، ضمن فهم عميق لجذور الصراع ومستجداته وتطوراته خلال السنوات الأخيرة، في سياق تهاوي الرواية الصهيونية المفبركة والمزورة عن الضحية وواحة الديمقراطية في المنطقة، وطليعة العالم الغربي المتنور والمتحضر، كما سنفصل لاحقًا.
أيضًا؛ نحن أمام تأييد نخبوي، من منظمات ومؤسسات المجتمع المدني في برشلونة، وبتنسيق تام مع هيئة مقاطعة إسرائيل "BDS"، عُبر عن الدعم الشعبي والنخبوي سياسيًا بأسلوب مؤسساتي وديمقراطي، من خلال التأييد الواسع في البرلمان، وبنسبة واسعة داخل مدينة برشلونة والإقليم الكتالوني عامةً.
كما يعبر القرار الكتالوني التوافقي والجامع عن فشل الحملة السياسية والإعلامية التي نظمتها السفارة الإسرائيلية في إسبانيا، وبعض المنظمات المؤيدة للدولة العبرية، بهدف منع القرار، رغم استعانة الحملة بحكومة إسبانيا المركزية.
كما سبق ذكره، عَبر القرار عن المزاج الشعبي السياسي والحزبي الكتالوني، لكنه أيضًا؛ حصيلة عمل هيئة مقاطعة إسرائيل "BDS" الدؤوب لمحاسبة إسرائيل ومعاقبتها على أفعالها غير الشرعية أو غير القانونية وفق المواثيق والشرائع الدولية، وفاعلية عمل الهيئة في أوروبا والعالم؛ بما في ذلك أميركا، راعية إسرائيل الأولى، ينطلق من التنسيق المنهجي مع الجمعيات والهيئات، بفعالية وتواصل مفتوح وناجح مع الرأي العام في برشلونة وإسبانيا وأوروبا والعالم عامةً.
لا تترك ممارسات إسرائيل مجالًا للشك، كونها تمارس نظام فصلٍ عنصريٍ موصوف ضد الفلسطينيين، حسب منظمات حقوقية أممية وإسرائيلية مرموقة، حتى قبل تسلّم هذه الحكومة الأكثر تطرّفاً السلطة، هو نظام ممنهج ومخطط ضد الشعب الفلسطيني بكافة فئاته وأماكن وجوده. هذه الحقائق والوقائع لا يمكن إنكارها أو طمسها والهرب منها، مع الاستيطان والتهويد والتهجير القسري، والتغيير الديمغرافي والتمييز العنصري ضد المواطنين في الأراضي المحتلة عام 1948، والفصل العنصري في الأراضي المحتلة عام 1967، مع معاملة تفضيلية وتمييزية وقوانين منفصلة لليهود على حساب أصحاب الأرض الأصليين.
جاء القرار حافلاً بالدلالات التاريخية والفكرية والسياسية والإعلامية والاقتصادية، وأهم بكثير مما يبدو عليه، وستكون له بالتأكيد تداعيات كبرى، بما يشبه تدحرج كرة الثلج
حكومة إسرائيل المتطرفة، بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ساعدت حملات مقاطعة ومحاسبة إسرائيل على جرائمها، كونها رفعت الأقنعة ومساحيق التجميل عن وجه الدولة العبرية الحقيقي، كما تبدى في برنامج الحكومة الائتلافية، وممارساتها الرسمية، وممارسات مسؤوليها، التي لا تدع أي مجالاً للشك تجاه طبيعتها وسياساتها الاستعمارية العنصرية ضد الشعب الفلسطيني.
إذًا؛ مع المعطيات السياسية التاريخية والفكرية والاقتصادية، ومع قرار مدينة برشلونة؛ التوقف عن التوأمة ومقاطعة تل أبيب والدولة العبرية، ومع تداعيات القرار وآثاره المحلية والقارية والدولية، ستحذو مدن وأقاليم كبرى في أوروبا حذو برشلونة، خاصةً في السياق الاقتصادي، كما رأينا في دعوة النائب في البرلمان البلجيكي سيمون موتكين إلى مقاطعة بضائع المستوطنات في كل دول الاتحاد الأوروبي، علمًا أن المقاطعة ستتسع مع الوقت حتى تشمل البضائع الإسرائيلية عامةً.
يتزامن ذلك كله مع بدء مداولات محكمة العدل الدولية في لاهاي؛ أكبر هيئة قضائية في العالم، بشأن الطلب المُحال إليها من الجمعية العامة للأمم المتحدة، لإصدار فتوى وتوصيف الوضع القانوني للاحتلال الإسرائيلي طويل الأمد لفلسطين، بما يشبه الضمّ وفرض الحقائق على الأرض، والفصل العنصري ضد الفلسطينيين، ونهب ثرواتهم ومنعهم من ممارسة حقوقهم الطبيعية غير القابلة للتصرف، حسب المواثيق والشرعية الدولية.
كذلك؛ تزامن القرار الكتالوني مع اليوم العالمي لمقاطعة شركة بوما للمنتجات الرياضية، في 16 فبراير/شباط، بسبب رعايتها الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم، وأندية تتبع مستوطنات مقامة بشكل غير شرعي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما فيها القدس. تقود "BDS" مقاطعة "بوما" أيضًا، وتحقق فيها نتائج ونجاحات يومية، تتمثل في انضمام أنديةٍ ومنتخباتٍ ومؤسساتٍ رياضيةٍ كبرى إليها.
يتزامن كل ذلك أيضاً مع سعي الحكومة الإسرائيلية الجديدة إلى تأميم القضاء، ورفع القناع عن فكرة، أو أكذوبة، واحة الديمقراطية، والطليعة الغربية المتنورة والمتحضرة في المنطقة، إذ قد تتحول إلى دولة عالم ثالث استبدادية فاسدة واستعمارية أيضاً، أي لم تعد ديمقراطية حتى لليهود أنفسهم.
يؤكد القرار الكتالوني كذلك على أهمية سلاح المقاطعة ومواجهة إسرائيل في الساحة الدولية، حيث سبل وأساليب المقاومة السلمية واسعةٌ ورحبةٌ وخصبةٌ، تُمكن رؤية ثمارها ونتائجها الجدية والملموسة.
أخيرًا، الرهان على أهمية العمل المنظم والمنسق والواعي، ومخاطبة العالم خاصة الرأي العام بلغة يفهمها، يقوداننا إلى أهمية العامل القيادي للنضال الفلسطيني، في أبعاده وجبهاته المختلفة، عبر قيادة منتخبة شابة وديمقراطية، نقية من الاستبداد والفساد، وجديرة بثقة الشعب الفلسطيني ودعمه، كي يصطف معها وخلفها ويعتد بها ويحترمها العالم. المفارقة الصادمة هنا؛ أن نشطاء "BDS" يتعرضون لمضايقات السلطة في رام الله، وهم لا يفهمون كيف تُمكن الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل، حين تقيم القيادة الفلسطينية علاقات معها بأبعاد مختلفة. يجب تغيير نهج القيادة جذريًا، خاصةً بعد وصوله إلى نهاية الطريق، وفقدان القيادةِ الشرعيةَ والثقة، ما يتطلب إجراء انتخابات شاملة، تفرز قيادة جديدة، يحترمها العالم، وتدير الصراع بحكمةٍ وذكاءٍ، مستفيدةً من الإمكانيات الهائلة، والوسائل الشعبية السلمية الواسعة المتاحة أمامنا.