جمر تحت الرماد بين روسيا وإسرائيل، أوقدته نيران الحرب الأوكرانية. ظلّ الطرفان يتراشقان التصريحات والمواقف: إعلان وزير الخارجية الإسرائيلي يئير لبيد الوقوف إلى جانب "الحليف" الأميركي في الحرب الأوكرانية؛ تأييد إسرائيل طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان؛ وعلى المقلب الآخر: إعلان روسيا على لسان نائب سفيرها الأممي ديمتري بوليانسكي عدم الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان؛ مطالبة الكرملين باستعادة ملكية كنيسة ألكسندر في القدس المحتلة؛ الاتصال الهاتفي بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ورئيس المكتب السياسي لـ"حماس" إسماعيل هنية- كلها رسائل ضمنيّة بين البلدين وسط أزمة مستترة.
لكن أمراً واحدًا فجّر الخلاف واستدعى إجراءً دبلوماسيًّا رسميًّا: أصل هتلر اليهودي.
ما السياق؟
استخدمت روسيا منذ بدء الحرب دعاية "النازيين الجدد" لشيطنة خصومها في أوكرانيا وشرعنة غزوها لهذا البلد. دائماً ما كانت تلك الدعاية تصطدم بحقيقة أنّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يهودي؛ فكيف يكون نازيًّا إذن؟
سئل لافروف هذا السؤال في مؤتمر صحافي قبل أيام، فكانت الإجابة غير متوقّعة: "هتلر نفسه كان يجري في عروقه دم يهودي؛ وأكثر المعادين للسامية حماسة هم من اليهود- هكذا يقول حكماء اليهود أنفسهم".
جاء الردّ الإسرائيلي سريعًا: استدعاء السفير الروسي والمطالبة بالاعتذار. ثم كلام أكثر حدّة للبيد الذي قال إنّ تصريح لافروف "لا يغتفر"، ووصفه بأنه يمثّل "أدنى مستويات العنصرية".
لكن هل اختلق لافروف هذا الادعاء زورًا؟
في الواقع، ثمّة جدل تاريخي حول المسألة سابق للحرب الأوكرانية وما لحقها من تسييس.
في عام 1953، نشرت مذكرات المحامي الشخصي لهتلر، هانس فرانك- بعد سبعة أعوام من إعدامه في محاكمات نورمبرغ. عَرف فرانك أنّ ابن أخي هتلر غير الشقيق ابتز الفوهرر مهددًا إيّاه بكشف جذوره اليهودية؛ وذلك ما دفعه للبحث.
اكتشف فرانك رسائل بين جدّة هتلر وعائلة فرانكنبرغر اليهودية التي عملت لديها كطاهية في مدينة غراز بالنمسا. تتعلّق رسائل الجدّة بدفع النفقة لابنها الذي أنجبته من علاقة غير شرعيّة مع صبيّ في العائلة اليهودية يبلغ 19 عامًا- كان هذا الطفل والد هتلر.
في المقابل، يقلل بعض المؤرخين من شأن تلك الرواية، وحجّتهم في ذلك أن التفاصيل التي يرويها فرانك لا تدعمها السجلّات: لم تكن هنالك عائلة يهودية باسم فرانكنبرغر في غراز خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر- أي الفترة التي عاشت فيها الجدة.
لكن أولئك المؤرخين لم يأخذوا في الاعتبار سؤالًا آخر يفرضه المنطق: لماذا قد يكذب محامي هتلر في مسألة حساسة كهذه؟
بحث فرانك لم يكن الوحيد
في دراسة حديثة صدرت عام 2018، ونشرت في مجلة "ناك" الصادرة باللغة الفنلندية، اكتشف الصحافي البلجيكي جان بول مولدرز، والمؤرخ مارك فيرميرن، ما يدعم ادعاء الأصل اليهودي لهتلر، وهذه المرّة استنادًا إلى فحص الـ"دي أن إيه".
جمع الثنائي عينات من لعاب 39 من الأقارب الأحياء لهتلر، وخلصوا إلى أنّ بعض السلاسل الوراثية التي تتكرر في العائلة نادرة جدًّا في غرب أوروبا، لكنها تتواجد بنسبة وازنة تقارب الـ30% في سلالات يهود شمال أفريقيا على وجه التحديد، أو السفارديم الذين طردوا من الأندلس واستقرّ معظمهم هناك؛ ما يعني أن هتلر ربّما حمل جذورًا يهوديّة أفريقية.
تفاهة العرق
اللافت في هذا السجال هو الرؤية الإسرائيلية المعكوسة للمسألة: أوّل ما قد يستنتج من أصل هتلر اليهودي هو تفاهة مفهوم العرق في العصر الحديث- أي بعد آلاف السنين من اختلاط الأعراق البشرية: إن كان هتلر يهوديًّا فذلك معناه أنه عنصَر واعتقَل وشرّد وقتل من تجمعه بهم رابطة دم؛ وهذا الغرض الجوهري من مثل تلك الدراسات.
لا يدلّ الفهم الإسرائيلي المغلوط إلّا إلى حجم التسييس الذي أقحمته الصهيونية في هذه القضية الإنسانية. لا يهمّ الدم والعرق، لا يغيّر ذلك من هويّة المجرم وهويّة الضحايا. الثابت الآن بعد عقود من جرائم هتلر أنّ الصهيونية ورثت مبدأ "العرق المتفوّق" عن النازية: تصنيفها كنظام عنصري في الجمعية العامة، وكنظام "أبارتهايد" اليوم، وقانون القومية الذي أقرّته، وجرائهما الأخرى بحق الفلسطينيين، كلها شواهد على ذلك. أن تكون يهوديًّا لا ينفي أن تفكّر وتتصرّف كنازيّ أيًّا تكن هويتك/قوميتك- هذا ما لم يقله لافروف.