لأكثر من 60 عاماً، خاضت إسرائيل حروبها المعروفة ضدّ العرب، دولاً وجيوشاً، رسماً لحدودها واغتصاباً للجغرافيا، وإثباتاً لحضورها في خريطة المنطقة، كجسم غريب عن الأرض والتاريخ. كانت تلك الحروب كلّها، من حرب 1948 إلى حروب لبنان، توسعية، لفرض حدود الأمر الواقع، بعدما حصلت دولة الاحتلال على تأشيرة ميلاد مزورة، تتأسس على "حقّ تاريخي" أكثر تزويراً، لن يصمد مهما مرّت عقود، تماماً كما لم تصمد الأكذوبة الفرنسية في الجزائر، وبعد 130 عاماً. المتغير الرئيسي في المواجهة القائمة أن إسرائيل تدخل اليوم مرحلة حرب الوجود.
لم يعد سؤال الخريطة هو ما يشغل بال المسؤولين في الكيان الصهيوني، بقدر ما يتصاعد سؤال المعركة الوجودية في خضمّ مواجهة جديدة تغيرت فيها قواعد الاشتباك وأدواته، وامتلكت فيها المقاومة مقومات صناعة ذخيرتها محلياً، وترسخت القناعة لدى عموم الفلسطينيين أنه لا بديل عن المقاومة بكلّ أشكالها. والأخطر من هذا كلّه، إفلاس مسار السلام الذي بات يعني شيئاً واحداً، وهو خسارة مزيد من الأرض والمقدسات، مع كيان لم يبقِ للفلسطينيين شيئاً، حتى المنازل والجدران.
صحيح أن الكيان ما زال يمتلك المقدرات المادية، لكن المواجهة القائمة قد تُحدث على المدى المنظور هجرة عكسية من دولة الكيان، بعدما تزعزعت ثقة حاضنته المجتمعية في قدرته على التأمين. يطرح ذلك مشكلات ديمغرافية تمثل مأزقاً وجودياً أيضاً. وصحيح أن مرحلة المواجهة ستكون مكلفة بالنسبة للفلسطينيين، لكنها جزء من كلفة استعادة الحقوق. في معارك الوجود، يصبح المحتل أكثر دموية ومبرمجاً على سياسة الأرض المحروقة. في التجربة الجزائرية ما يدل على ذلك بكل وضوح: دموية الاستعمار الفرنسي وكلفة الشهداء في معركة محاربة الوجود الاستعماري في الجزائر خلال سبع سنوات من ثورة التحرير (1954-1962)، كانت أكبر بكثير من كلفة حروب فرنسا التوسعية في الداخل الجزائري قبل ذلك، لذلك لا يتوقع أن يستسلم الكيان المحتل بسهولة.
ثمة نقطة أخرى هي جزء من متغيرات معركة الوجود. صحيح أن كثيراً من الدول العربية تركت الفلسطينيين يواجهون مصيرهم لوحدهم، لكن القضية الفلسطينية حققت هذه المرة مكاسب تاريخية، سيكون لها أثر بالغ في تحولات المواقف الدولية في المستقبل. العالم الغربي بدأ يفهم بشكل واضح الأبعاد الحقيقية للصراع كقضية إنسانية وشعب يتعرض لكل أنواع التهجير والعنصرية. مهم جداً هذا الخطاب الذي بدأ يتصاعد في الغرب، ويضع الحالة الفلسطينية في تماثل تام مع نظام الأبرتهايد (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا، وتلمس الرأي العام الأميركي لحالة تماثل مع التمييز العنصري القائم في الولايات المتحدة ضد السود، وهو مدخل مناسب تماماً لتخليص المجتمعات الغربية من السردية والدعاية الصهيونية وإحداث تغيير في وعيها إزاء الحق الفلسطيني.
بذلك يتهشم زجاج التطبيع مرة أخرى، وقد كان ذلك متوقعاً. لم يكن ممكناً لكيان غاصب أن يعيش متدثراً برداء مغشوش لفترة طويلة، وقد تخطت المواجهة القائمة بين الكيان الصهيوني والشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة هذه المرّة أخطر مرحلة لتصفية القضية، بعدما كانت قاب قوسين أو أدنى بنظر الإسرائيلي، خصوصاً في ظل نجاح إسرائيل قبل فترة قصيرة في تحقيق مزيد من الاختراقات إلى داخل الجسم العربي، وتوقيعها مع دول عربية سلسلة اتفاقات تطبيع، باتت هي الأخرى في حكم الموات الأخلاقي والسياسي... فلسطين هي الرافعة لكل حرّ والخافضة لكل مطّبع متخاذل، والقدس عاصمة كل حرّ.