لعبت غزة دورا محوريا في الحركة الوطنية الفلسطينية منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا، فرغم أن مساحة قطاع غزة لا تتجاوز 1,33% من إجمالي مساحة فلسطين التاريخية، لكنه من أكثر مناطق العالم كثافة سكانيا، أكثر من مليوني نسمة، لذا يحدد وضع غزة ومصيرها مآلات القضية الفلسطينية برمتها ويؤثر على شكل خريطة المنطقة بالكامل.
يعتقد الإسرائيليون أنه ما من حل لمعضلة الوجود الفلسطيني، وتحديدا هذه الكثافة السكانية التي تنمو باضطراد، إلا بإلغاء هذا الوجود، وهذا الإلغاء يتخذ أشكالا متنوعة، منها القتل والإبادة الجماعية مرورا بالتهجير والنفي وانتهاء بالحصار والتضييق على معاش الأهالي وتحويل حياتهم إلى كابوس مزمن مع عدوان بين فترة وأخرى لتأديبهم و"جز العشب". طرح الإسرائيليون، منذ نكبة فلسطين وحتى يومنا، مشاريع لتهجير سكان قطاع غزة، وكان أخطرها المشروع الذي طرح عام 1955 لتهجير اللاجئين من قطاع غزة إلى سيناء، لأنه حظي بموافقة مصرية وإسرائيلية ودولية ورعاية خاصة من الولايات المتحدة الأميركية.
غزة قبل الحكم المصري
تأسست الهيئة العربية العليا عام 1946 برئاسة المفتي الحاج أمين الحسيني كإطار سياسي واجتماعي فلسطيني عام، وشكلت الهيئة المجلس الوطني الفلسطيني الذي عقد مؤتمره الأول بعد النكبة بشهر في مدرسة الفلاح في غزة، ونتجت عنه حكومة عموم فلسطين برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي واعتماد علم الثورة العربية علما لفلسطين وإصدار جواز سفر فلسطيني.
لم يرق الأمر للملك عبد الله بن الحسين الذي كان يطمح لحكم مملكة عربية تتألف من الأردن والضفة وغزة، وقد طرح الأمر على الحاج أمين بأن يكون هو (عبد الله بن الحسين) الملك والحاج أمين نائبه، لكن المفتي رفض الأمر، فأقنع الملك عبد الله الملك فاروق بإلغاء حكومة عموم فلسطين ومغادرة الحاج أمين غزة، فخرج إلى المنفى ومات في بيروت عام 1974.
غزة تقاوم مشروع التوطين
بلغ عدد سكان قطاع غزة آنذاك نحو 80 ألف نسمة، أضيف إليهم ما يقرب من 200 ألف لاجئ، توزعوا في 8 مخيمات وخضعوا بعد توقيع الهدنة مع مصر عام 1949 للحكم الإداري المصري بذات الصلاحيات التي كانت للمندوبية البريطانية قبل النكبة. بدأت المخيمات تفرز مجموعات مسلحة صغيرة تقوم بعمليات عسكرية على المستوطنات القريبة من غزة، فقد أنشأ خليل الوزير (أبو جهاد) كتيبة الحق، في حين سمى صلاح خلف (أبو إياد) مجموعته بشباب الثأر، وكلتا المجموعتين ضمت متطوعين من الإخوان المسلمين.
بدأت الطائرات الإسرائيلية تقوم بغارات على غزة، وأبرزها الهجوم على مخيم البريج، استشهد فيها 26 فلسطينيا وأصيب العشرات بجروح، وعلى سكة الحديد التي استشهد فيها جنود مصريون وسودانيون. اتفقت الحكومة المصرية عام 1953 مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأوسط (أونروا) على مشروع يقضي بتوطين نحو 12 ألف أسرة من لاجئي قطاع غزة على أراض في شمال غرب صحراء سيناء بعد جعلها صالحة للزراعة، عبر إيصال نسبة من مياه نهر النيل سنوياً إليها. وخُصصت لتنفيذ ذلك المشروع، الذي حظي بدعم الولايات المتحدة آنذاك، 30 مليون دولار.
وقد اعتُبر ذلك المشروع، كما يذكر الباحث ماهر الشريف، من أكثر مشاريع توطين اللاجئين الفلسطينيين خطورة، لأنه تضمن تصوّراً شاملاً لكيفية تنفيذه، ولعزم الحكومة المصرية ووكالة "أونروا" على إنجاحه. حصل الحزب الشيوعي في قطاع غزة على المشروع، الذي قدمته أونروا ووقعه وزير الخارجية المصرية آنذاك محمود فوزي مقابل وعد من الأميركيين بتمويل السد العالي، فقام الحزب بنشر ورقة المشروع ووصف الشاعر وسكرتير الحزب الشيوعي في غزة معين بسيسو في كتابه (دفاتر فلسطينية) المشروع: "كان تقريرا وقحا ومشؤوما، ورغم اعتراف المهندسين في الوكالة باستحالة الحياة في تلك القطعة من جهنم - في سيناء - لقلة المياه والتكاليف الباهظة لاستصلاح الرمال.. فضلا عن الأمراض التي ستصيب اللاجئين.. اقترحوا أن تتم التجربة على 20 ألف لاجئ". يضيف بسيسو: "كان حاكم غزة العسكري المصري سعد حمزة يذهب إلى مخيمات البريج، النصيرات، المغازي ويصرخ فيهم: من الأفضل لكم أن تذهبوا إلى سيناء في اللوريات (الحافلات) بدل أن تذهبوا إليها مشيا على الأقدام".
صداقة وتعاون بين الإخوان المسلمين والشيوعيين
لم يحصل في تاريخ المنطقة العربية تقارب وتعاون بين إسلاميين وشيوعيين كما حصل في غزة عام 1955 في ما يُعرف بهبة مارس، حين انتفض الفلسطينيون ضد مشروع التوطين في سيناء وقاد الإخوان والشيوعيون معا تظاهرات نددت بالمشروع وهتفت "لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان"، "كتبوا مشروع سيناء بالحبر وسنمحو مشروع سيناء بالدم"، وانتهت بمقتل شيوعي فلسطيني وإسقاط مشروع سيناء واعتقال قادة التظاهرات، وفي مقدمِهم فتحي البلعاوي، نقيب معلمي غزة وأحد قادة الإخوان المسلمين، وصديقه الشاعر وسكرتير الحزب الشيوعي في غزة معين بسيسو، ومحمد يوسف النجار، أحد قياديي الإخوان وأول قائد لقوات العاصفة، وآخرون. كان أساس التعاون الإخواني- الشيوعي في صداقة شخصين، أولهما أحد قادة الإخوان في غزة فتحي البلعاوي 1926-1996 وثانيهما الشاعر وسكرتير الحزب الشيوعي الفلسطيني في غزة معين بسيسو 1928-1984.
فتحي البلعاوي
رسم الباحث حسان البلعاوي جانبا من سيرة أبيه فتحي البلعاوي في كتابه (غزة والحركة الوطنية الفلسطينية) الصادر عن دار الشروق في عمان: "التحق بالأزهر الشريف عام 1946، وانضم لجماعة الإخوان المسلمين وتطوع للجهاد في فلسطين، ساهم بتأسيس أول تنظيم طلابي فلسطيني عام 1951 في مصر، وبسبب نشاطه السياسي اعتقل ورحل إلى غزة، عام 1953، التي عمل فيها مدرسا وأسس نقابة المعلمين فيها وأصبح نقيبا لها، ثم اعتقل مرة أخرى بعد هبة مارس عام 1955 مع معين بسيسو وآخرين وأفرج عنه عام 1957، وكان من مؤسسي حركة فتح عام 1961، عمل لفترة طويلة في قطاع التعليم في قطر ثم عاد لغزة بعد اتفاق أوسلو ليعين وكيلا مساعدا لوزارة التربية".
يصف معين بسيسو صديقه فتحي البلعاوي: "كان قد وصل إلى قطاع غزة، كان الإخوان المسلمون يراهنون عليه كحصان ذي جناحين يطير ولا يمشي، لكن فتحي البلعاوي كان عليه أن يقف فوق الأرض أو فوق الهواء، اختار الأرض. وهكذا أصبح فتحي البلعاوي في القلب. مثل أخي - ابن أمي وأبي - كنت أحبه - ولا أزال". تعرف فتحي على ياسر عرفات خلال تأسيسه رابطة طلاب فلسطين في القاهرة، والتي تحولت لاحقا إلى الاتحاد العام لطلبة فلسطين وخرّجت معظم القيادات الفلسطينية، أراد بلعاوي أن ينزع صفة الإخوانية الخالصة عن الرابطة، فرشح الطالب ياسر عرفات كمستقل لعضوية مكتبها وأصبح رئيسا للرابطة في دورتها الثالثة.
معين بسيسو
ولد معين في حي الشجاعية في غزة وانتسب لعصبة التحرر الوطني التي كانت الإطار الذي يجمع الشيوعيين، ولكن بعد النكبة أصبح اسمها الحزب الشيوعي الأردني بسبب إلحاق الضفة الغربية بالأردن، فيما صار أعضاء العصبة من مواطني أراضي 1948 أعضاء في حزب راكاح، ولم يبق غير شيوعيي غزة الذين تحولوا إلى الحزب الشيوعي في قطاع غزة عام 1953، وسمي معين بسيسو أول سكرتير له وبقي في موقعه ذاك 11 عاما. سجن في مصر قبل هبة مارس وبعد الهبة، سجن مع خطيبته وزوجته لاحقا صهباء البربري، سجل معين بسيسو تجربته هذه في كتابه (دفاتر فلسطينية)، صدر عام 1987 عن دار الفارابي، وكان الشاعر محمود درويش قد نشر حلقات من الدفاتر في مجلة شؤون فلسطينية عام 1977.
ويرد فيها أنه قابل الزعيم الإخواني سيد قطب في السجن وطلب منه السجائر، فرد قطب: اقرأوا القرآن، على العكس من البلعاوي الذي كان يزوده بعلب الدخان. زاره صلاح خلف (أبو إياد) في السجن، وعن طريقه هرّب قصيدتين مكتوبتين على ورق السجائر وهرب معهما منشورا حزبيا سياسيا.
اشترى الحاج أمين الحسيني مائة نسخة من ديوانه (المعركة) وكانت أيام فاقة، فتعشى بعدما قبض ثمن المجموعات مع صديقه الشاعر صلاح جاهين الذي صرخ: "لقد أكلنا عشر نسخ من الديوان في هذا العشاء". رفض التوقيع في السجن على التبرؤ من الشيوعية متذكرا قصيدة الشاعر السوري شوقي بغدادي، التي أعلن فيها التبرؤ من الحزب الشيوعي السوري: يا عصبة الأوحال وخالد الدجال بالإشارة إلى خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري.
من رابين إلى العدوان الحالي على غزة
يتمنى الإسرائيليون أن يستيقظوا ذات يوم ويروا غزة وقد غرقت في البحر كما عبر عن ذلك رئيس وزرائهم إسحاق رابين. بعد النكبة مباشرة، ظهرت اقتراحات إسرائيلية بتهجير سكانها من اللاجئين، وتنوعت الاقتراحات بين ترحيلهم إلى الضفة الغربية أو العريش المصرية، ثم قدم مشروع سيناء الذي فشل عام 1995، كما نوقشت خطط لنقل 200 ألف فلسطيني عام 1968 إلى دول مختلفة، وبعدها اقترح أرئيل شارون عام 1971، وكان قائد منطقة الجنوب، تهجير 12 ألف فلسطيني من غزة إلى سيناء.
في عام 2000، قدم رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي غيورا أيلاند مشروع "البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين"، حيث تقدم مصر تنازلاً عن 720 كيلومتراً مربعاً من أراضي سيناء لصالح الدولة الفلسطينية المقترحة، مقابل أن يتنازل الفلسطينيون عن المساحة ذاتها من الضفة الغربية لضمها إلى إسرائيل، وتحصل مصر على أراض في النقب. وفي عام 2020، طرح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب صفقة القرن التي تقضي بتنازل مصر عن أراضٍ في سيناء، وتجدد طرح تهجير أهالي غزة مع العدوان القائم اليوم.