كان للانتفاضات والثورات الشعبية التي انطلقت في العديد من العواصم العربية وقع كبير على القضية الفلسطينية، وتراوحت تلك الأبعاد لهذه الثورات بين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مجالها الخاص، ما أثر في البيئة السياسية والاستراتيجية الإقليمية والدولية، حيث ما زال مخاض تلك الثورات وأثرها على الحالة الفلسطينية برمتها مستمراً ودون حسم واضح، بعد اتجاه دول عربية لعقد اتفاقيات تطبيع وتحالف مع دولة الاحتلال بشكل منفرد، بعد أن كانت تلك الاتفاقيات تخضع لمسار جماعي، خاصة من قبل دول الطوق بفعل الاعتبارات الأمنية المشتركة لها في مواجهة دولة الاحتلال.
بعد مرور أكثر من عام على توقيع اتفاقيات أبراهام، وهو الاسم الذي يطلق على اتفاقيتي التطبيع برعاية أميركية بين دولة الاحتلال والإمارات العربية المتحدة في ١٣ آب/ أغسطس ٢٠٢٠، ثم بين دولة الاحتلال والبحرين في ١١ أيلول/ سبتمبر ٢٠٢٠، ورغم قصر السنة كفترة زمنية في تقصي التحولات الجيوسياسية الواسعة والعميقة، لكن برزت بعض التحولات بفترة أقصر من ذلك بكثير، في ما يتعلق بتقويض مكانة المقاطعة العربية ضد دولة الاحتلال، فهل كانت اتفاقيات السلام الأحادية المعنونة بأبراهام حدثاً مفصلياً ينطوي عليه تغيير قواعد اللعبة السياسية بين الدول العربية ودولة الاحتلال؟
في الإجابة عن هذا السؤال نستطيع رصد اتجاهين، الأول يعتبر أن الاتفاقية هي مجرد استمرار لعلاقات كانت قائمة في الخفاء، وكل ما فعله الاتفاق هو تصديرها للعلن. ويميل أصحاب هذا الاتجاه للقول بهامشية دولة الإمارات العربية المتحدة ودولة البحرين، وبأنهما لا تملكان تأثيراً جلياً على تطور الأحداث في الشرق الأوسط. وينظر أصحاب هذا الاتجاه إلى أن اتفاقيات أبراهام هي حالة من تكريس الإقصاء للقضية الفلسطينية ونقلها من المركز إلى الهامش.
أما الاتجاه الثاني فيرى بمحورية دور اتفاقيات أبراهام في مستقبل المنطقة برمته، مع القول بأن قواعد اللعبة القديمة في الشرق الأوسط معرضة للتغيير والاهتزاز تحت موجة الاتفاقيات الفردية مع دولة الاحتلال، وذلك بسبب توغل دولة الاحتلال في عمق العالم العربي بشكل علني وواضح. ويقول أصحاب هذا الاتجاه بتراجع الدورين الإيراني والتركي أمام هذا التحالف المحدث.
يميل أصحاب الاتجاه الثاني للاستنتاج بأن الاختراقة في علاقات دولة الاحتلال مع العالم العربي سوف تتبعها اختراقة في علاقة دولة الاحتلال مع الفلسطينيين، وفق قواعد لعبة جديدة تحت عنوان العالم العربي أولا ثم الفلسطينيون ثانياً أو أخيراً، وهذا سيفضي بالنتيجة لتشكيل علاقات مختلفة بين كيان الاحتلال والفلسطينيين تحت رعاية وسطاء إقليميين جدد بعدما احتكر الغرب هذه الوساطة لفترات طويلة.
تحرك الكتل السياسية العربية منفردة لعقد اتفاقيات مع دولة الاحتلال، أمر تسبب في تغيير المفاهيم وقواعد اللعبة، تجلى الأمر في التهافت على منح شرعية لدولة الاحتلال بعد سنوات من عزلها سياسياً بشكل علني على الأقل، خاصة بسبب الدعم الواضح الذي تلقته دول الاتفاقات من عُمان والسعودية مثلاً، وحالة فتح السوق الإسرائيلية على الشرق الأوسط، وما تطلبه ذلك من تغييرات في الأجهزة الأمنية ومؤسسات السلطة الإسرائيلية من أجل مواكبة هذا التحدي الجديد على كافة المستويات.
وأحدثت هذه الاتفاقيات الفردية عودة لمصطلحات السلام بعد تجميدها واضطرابها لأكثر من عقدين، وتمثل تلك الاتفاقيات الفردية انسجاماً تاماً مع الاستراتيجية التفاوضية الإسرائيلية والتي قامت على عدة أسس، أولها إدارة الصراع وليس حل الصراع، وهذا من أجل إضعاف الجانب الفلسطيني والعربي الذي يذهب لاتفاقيات فردية، حتى يقنع بما تقدمه دولة الاحتلال، انسجاماً مع سياسة الخطوة خطوة التي تبنتها دولة الاحتلال في مفاوضاتها التي تجزئ التسوية إلى مسارات منفصلة، ومن ثم تجزئ المسارات المنفصلة إلى مراحل ومحطات، بعيداً عن الكشف عن رؤية نهائية، أو الذهاب إلى مؤتمر دولي يلزم دولة الاحتلال بإنفاذ التسوية بقوانين دولية رادعة.
أتت اتفاقيات أبراهام لتعزز الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على إبقاء العملية التفاوضية عملية مستمرة، ودعمت دولة الاحتلال في تجنب الوصول لحالة انسداد تام يؤدي لتخلي العرب والفلسطينيين عن خيار التسوية وانتقالهم لخيارات أخرى، وتوجت سعي دولة الاحتلال لاستمرار دفع المفاوض الفلسطيني والعربي للوصول إلى الجزرة، واستمرار الأحاديث حول رفاه وسلام شعوب المنطقة وأمنهم، في الوقت الذي لا تتوقف فيه دولة الاحتلال عن تكريس الحقائق على الأرض من تغول استيطاني وعمليات تهويد للقدس ومحاولات إلغاء قضايا اللاجئين والعودة، وممارسة الفصل العنصري تجاه الفلسطينيين في أراضي ٤٨ والضفة الغربية وحصار غزة.
تاريخياً رحبت دولة الاحتلال بالاستماع للمبادرات الفلسطينية والعربية وأخذت ما قدم فيها من تنازلات على أنها حقوق مكتسبة لها، وبنت عليها من أجل مبادرات جديدة لتحقيق مكتسبات جديدة وتنازلات سخية أكثر، وفي حالة المسار الفردي للتفاوض والاتفاق مع دولة الاحتلال وبسبب الضغوط الخارجية، قدمت الأطراف منفردة تنازلات جديدة، ما دفع الاحتلال إلى المطالبة بالمزيد، فمن يراقب دولة الاحتلال يلاحظ بأن ساستها يتعاملون كأنهم حسموا قضايا القدس واللاجئين والكتل الاستيطانية والدولة منزوعة السلاح منقوصة السيادة.
تعاملت دولة الاحتلال مع المسارات التفاوضية العربية على أنها مسارات منفصلة، وهذا لمنع العرب من المسار التفاوضي ككتلة واحدة قوية ومتناسقة في مواجهتها، ورغبة من دولة الاحتلال بالجلوس مع كل طرف عربي على حدة من أجل تسهيل عزله وإضعافه، وهذا من شأنه تعزيز وضع الجانب الإسرائيلي، وهذا ما عكفت عليه دولة الاحتلال أثناء المفاوضات المصرية والفلسطينية والأردنية من قبل.
تشكل اتفاقيات أبراهام على المستوى المحلي للدول الموقعة تغييرا واضحا في قواعد اللعبة، والتي من أهم ملامحها التحولات في تفكير المؤسسة السياسية الإسرائيلية في ما يتعلق بالشرق الأوسط، رغم أن انضمام دولة الاحتلال إلى المحور البراغماتي في العالم العربي لم يعزز الردع ضد إيران كما أرادته دول الخليج الموقعة، خاصة بعد زيادة عدد الهجمات الإيرانية البحرية بعد توقيع الاتفاقية، وبسبب قرب إيران من تحقيقها لهدف التسلح النووي. كما يمكن القول بأن دول الخليج أصبحت أكثر فاعلية في ما يتعلق بإدارة ملفات القضية الفلسطينية ليس على مستوى الدعم المالي فقط وإنما بوسائل سياسية مباشرة، طالما تحركها مصالحها في سبيل ذلك، والتي تدفعها بسبب التقاطعات الاقتصادية مع دولة الاحتلال إلى تدخل مباشر وفاعل من أجل تغيير أوضاع كثيرة عالقة، خاصة أن تلك الدول الموقعة للاتفاقيات الفردية مع دولة الاحتلال تعوّل على قوة الاقتصاد والمال أكثر من قضايا العدالة وحقوق الإنسان في ما يتعلق بأساس توقيعها اتفاقيات أبراهام المنفردة.
خلاصة القول: أحدثت اتفاقيات أبراهام الموقعة بشكل منفرد تغييرا جوهريا في قواعد اللعبة التفاوضية مع دولة الاحتلال، وذلك بناءً على الكم الكبير من المعطيات التي تبعت توقيع تلك الاتفاقيات، وما تبع ذلك من تغيير في الوعي، وتغيير التعاطي مع الفلسطينيين وحقوقهم، وتكريس حالة التطبيع عربياً بعد نشاطها على المستوى العالمي من قبل مناصرين للقضية الفلسطينية، كذلك حالة السلام بين الشعوب أو السلام الدافئ كما يريد له الساسة من الأطراف الموقعة، وهذا من شأنه أن يحسم الصورة الضبابية التي كانت تلف المواقف المعلنة من القضية الفلسطينية، خاصة أن العلاقات التطبيعية انتقلت من السر إلى العلن، وبأشكال واضحة تميل للتحالف المشترك، وبهذا تكون اتفاقيات التطبيع المنفردة مع دولة الاحتلال والمعنونة بأبراهام هي خروج عن مسار المفاوضات الجماعية، إلى مسار عربي منفرد، وهذا هدف عملت عليه دولة الاحتلال منذ انطلاق مفاوضاتها مع الجانبين الفلسطيني والعربي.