كثيراً ما يتم الحديث عن ملفات السياسات الخارجية لأي بلد وكأنها منفصلة عن الداخلية. لكن نظرة سريعة على عدد من المراسيم الرئاسية، التي يُتوقع أن يصدرها الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن عند توليه منصبه الرئاسي رسمياً، في 20 يناير/ كانون الثاني المقبل، تُظهر التحام السياسات الخارجية والداخلية في العديد من الملفات المهمة.
ويواجه بايدن إرثاً ثقيلاً من التحديات، أكان داخلياً كانتشار وباء كورونا وتبعاته الاقتصادية والبطالة وغيرها، أو في السياسات الخارجية، بعدما ترك الرئيس الخاسر دونالد ترامب علاقات بلاده بالكثير من الدول الكبرى في حالة يرثى لها. وسيحتاج بايدن إلى وقت لا يستهان به لترميم جسور تلك العلاقات.
من المراسيم الرئاسية التي يُتوقع أن يصدرها الرئيس المنتخب هو عودة انضمام الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ، وهو ما وعد به بايدن خلال حملته الانتخابية، وأكده بعد فوزه. قد تكون العودة إلى الاتفاقية هي الأسهل، لكن الخطوات التي تليها هي الأكثر تعقيداً وتتطلب تجنيداً واستثمارات مالية عالية في الطاقة النظيفة في الولايات المتحدة، فضلاً عن إلزام الشركات الأميركية بالأهداف والقواعد المتعلقة بالتلوث البيئي، والتي رفعت إدارة ترامب عدداً لا بأس به منها، وأعفت الشركات الأميركية من جزء من التزاماتها بهذا الشأن.
كان بايدن قد اقترح إنفاق تريليوني دولار على الطاقة النظيفة والبنية التحتية
وكان بايدن قد اقترح، كجزء من خطته البيئية، إنفاق تريليوني دولار على الطاقة النظيفة والبنية التحتية، فضلاً عن الوصول إلى خفض صافي الانبعاثات إلى صفر بحلول عام 2050. هذه الخطوات إن حدثت ستجبر دولة أخرى مهمة كالصين، وهي أكبر ملوث للبيئة حالياً، على الالتزام بشكل أكبر. لكن ولفرض سياسات جذرية واستثمارات، سيحتاج بايدن الكونغرس إلى جانبه. وحتى اللحظة يمكنه ضمان مجلس النواب، ذي الأغلبية الديمقراطية، لكن مصير مجلس الشيوخ ما زال معلقاً ومتعلقاً بنتائج انتخابات ولاية جورجيا، مقعدين، لمجلس الشيوخ التي سيعاد التصويت عليها بداية يناير، لأن أياً من المرشحين لم يحصل على النتائج اللازمة لضمان فوزه، والتي تفرض الحصول على خمسين في المائة زائد واحد في جورجيا. وإن لم يحصل حزبه على الأغلبية في مجلس الشيوخ فسيضطره ذلك إلى إصدار عدد أكبر من المراسيم الرئاسية لفرض سياسته.
لكن إذا أظهر بايدن تردداً في إصدار عدد كبير من المراسيم الرئاسية، كما حدث مع الرئيس السابق باراك أوباما، فسيكون، كما يقول المثل الأميركي، بمثابة من يضع عصا في عجلة عربته. لأنه من غير المتوقع أن يدعم مجلس الشيوخ، بقيادة الجمهوريين، تلك السياسات، بل سيحاول عرقلتها، وهو ما حدث في عهد أوباما.
ومن السياسات والملفات الخارجية المرتبطة بقوة بأخرى داخلية محاربة فيروس كورونا. فقد أصبح واضحاً أنه لا يمكن تحت نظام العولمة القائم أن ينأى بلد، كالولايات المتحدة، بنفسه عما يحدث في العالم مع مستوى الانتشار الكبير للوباء. لذلك فإن عودة الولايات المتحدة إلى منظمة الصحة العالمية ستكون من الأساسيات. إلا أن العودة المتوقعة، التي أكد بايدن أنه سيقوم بها، لا تعني بالضرورة الانضمام إلى مبادرة "كوفاكس"، والتي ترعاها منظمة الصحة العالمية، ومن ضمن أهدافها تنسيق الجهود الدولية لإيجاد لقاح، وتأمين حصول الدول النامية ومتوسطة الدخل بشكل عادل مادياً على لقاح كورونا عند توفره. حتى اللحظة انضمت الأغلبية الساحقة من دول العالم إلى المبادرة، أكثر من 180 من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة. ومن أبرز المنضمين إلى المبادرة أخيراً، الصين. أما أبرز الدول التي تخلّفت عن الركب فهي الولايات المتحدة وروسيا. ومن غير الواضح ما إذا كان بايدن سينضم للمبادرة. ولعل الأهم هو تفاصيل هذا الانضمام. فحتى لو انضمت الولايات المتحدة للمبادرة فإن السؤال الأهم يبقى ما إذا كانت ستقدم الدعم المادي الكافي؟ فما زالت المبادرة تحتاج إلى قرابة 35 مليار دولار أميركي إضافية لتلبية ضمان بدء تحقيق أهدافها الأساسية.
من المستبعد أن يتراجع بايدن عن نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة
أما الملف الإيراني، وعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، التي أعلن بايدن أنه ينوي القيام بها، فقد يثبت أنه أكثر تعقيداً مما يتوقع. حتى خروج الولايات المتحدة من الاتفاق، تحت إدارة ترامب عام 2018 فإن إيران كانت ملتزمة بشكل كامل بالتزاماتها بموجب الاتفاقية بحسب تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ذات الصلة، بما فيها مستوى تخصيب اليورانيوم. واليوم بعد مرور قرابة العامين على الانسحاب، واغتيال قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، وفرض وابل من العقوبات على إيران، قامت طهران، بحسب الوكالة الذرية للطاقة، بمراكمة اليورانيوم المخصب ليتجاوز مخزونها 12 مرة الحد المسموح به بموجب الاتفاق النووي الذي أبرم عام 2015. كما أصبحت تنتج اليورانيوم المخصب بنسبة تفوق 4.5 في المائة، في الوقت الذي يسمح لها الاتفاق بنسبة 3.67 في المائة. وتشير تقارير الوكالة إلى أن الجانب الإيراني عاد في الأشهر الأخيرة إلى مستويات قريبة من التزاماته بموجب الاتفاق. ومن المرجح أن يكون ذلك في انتظار نتائج الانتخابات الأميركية، وما ستقدمه إدارة بايدن.
ولا شك في أن الإدارة الأميركية في موقف لا تحسد عليه، فبعض أقرب حلفائها، كالسعودية وإسرائيل والإمارات، يعارضون ذلك الاتفاق. وعلى الرغم من الضغوط الشديدة التي كانت هذه الدول قد مارستها آنذاك على إدارة أوباما، إلا أنه قرر المضي قدماً وإبرام الاتفاق بالتعاون مع الدول الأوروبية، كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، إضافة إلى الصين وروسيا. والسؤال هو إذا كان بايدن سيضطر لتقديم تنازلات لإسرائيل ويزيد من حجم بيع الأسلحة للسعودية والإمارات، كما حدث في عهد أوباما وترامب لاحقاً. فبعد عام من توقيعها الاتفاقية النووية الإيرانية زادت الولايات المتحدة من حجم مساعداتها العسكرية لإسرائيل ليصل إلى 38 مليار دولار إضافية، قُسمت على عشر سنوات، بدءاً من عام 2019. أما حجم مبيعات الولايات المتحدة العسكرية للسعودية فإنه زاد بين عامي 2014 و2019 بنسبة 220 في المائة بحسب إحصائيات معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
وهذا الأمر يحيل إلى ملف اليمن، حيث وعد بايدن بإنهاء دعمه العسكري للسعودية والإمارات في حربهما في اليمن. وتقدم الولايات المتحدة لهما دعماً لوجستياً في تلك الحرب. لكن السؤال، هل سيضطر بايدن إلى تقديم التنازلات في الملف اليمني، على عكس تصريحاته، ما يعني الاستمرار في دعم السعودية والإمارات في حرب اليمن، مقابل حله للمعارك الشائكة التي تنتظره داخلياً في الملف الإيراني، وعودة الانضمام للاتفاقية، على الرغم من المعارضة الشديدة لكل من إسرائيل والسعودية والإمارات؟
هناك ملفات أخرى متعلّقة بالسياسة الخارجية سيتركها ترامب خلفه، بعدما خلق الحقائق التي لن يستطيع بايدن بسهولة تغييرها، ومن بينها القضية الفلسطينية. قد يعيد بايدن فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن ودعمه المالي للسلطة. لكن من المستبعد أن يتمكن من التراجع عن أي من الحقائق التي خلقها ترامب على الأرض، كنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة وغيرها.