بالتوازي مع محاولات النظام المصري السيطرة على الغضب الشعبي المتصاعد في العديد من المناطق الريفية في مختلف المحافظات، والتعامل بصورة فئوية مع الاحتجاجات، التي اندلعت الأسبوع الماضي، لتفريغها من مضمونها، يعود إلى شنّ المزيد من الهجمات على جماعة الإخوان المسلمين وقياداتها وامتداداتها الاجتماعية، في خروج- يعتاده النظام- عن سياق المشهد السياسي والاقتصادي المأزوم، مكرراً سياسته بتصدير المواجهة مع "الإخوان" باعتبارها محور الأزمة وأصل القضية. وصدّر في الإعلام مواجهته مع الجماعة باعتبارها معركة ممتدة، مدرجاً تحتها- على غير الواقع- المأزق الشعبي الحالي الذي يعانيه بسبب سياساته وانتهاكه لحقوق المواطنين.
وكما حدث العام الماضي، بعيد تظاهرات العشرين من سبتمبر/أيلول، بمسارعة النظام لفتح قضايا جديدة لقيادات وعناصر الجماعة واتخاذ خطوات تصعيدية جديدة ضدهم، بمن فيهم المحبوسون بتدويرهم في قضايا جديدة، بدأ النظام، أخيراً، موجة جديدة من التنكيل بـ"الإخوان"، بمن فيهم السجناء. وأصدرت محكمة القضاء الإداري بالقاهرة، أمس الأول، حكماً هو الأول من نوعه، بشطب خمسة محامين إسلاميين معتقلين، بعضهم ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، من نقابة المحامين، ووصفهم بأنهم "إرهابيون وتلوثت أيديهم بالدماء"، بحجة أنهم مدرجون في قائمة الإرهاب بسبب "اتهامهم" في قضية تمويل جماعة "الإخوان" رقم 653 لسنة 2014 التي تم التحفظ بسببها على أموالهم، رغم أنها ليست السبب في حبس المعتقلين منهم.
تجاهلت المحكمة أن النيابة العامة خلال تحقيقاتها في قضية تمويل "الإخوان" لم تأمر بحبس أي شخص
وألزمت المحكمة نقابة المحامين بشطب عضوية المحامين، وهم النائب السابق بالبرلمان وعضو لجنة تعديل الدستور صبحي صالح، والنائب السابق عصام سلطان، وأسامة نجل الرئيس الراحل المعزول محمد مرسي، ومحامي الجماعة الذي يحضر حالياً في معظم المحاكمات عبدالمنعم عبدالمقصود، والمحامي حاتم عبدالسميع الجندي. وزعمت المحكمة في حكمها، أن اتهام المحامين المذكورين في هذه القضية جعلهم يفقدون حسن السمعة والسيرة المفترض كشرط يجب توافره لدى المحامين الذين يشاركون القضاة في تحقيق العدالة وتأكيد سيادة القانون، ويؤكد فقدانهم مبادئ الشرف والاستقامة والنزاهة.
وذكرت المحكمة أنها تأكدت من إدراج المحامين المتهمين لارتكابهم جرائم تمثلت في تمويل شراء الأسلحة، وتدريب عناصر جماعة الإخوان المسلمين عسكرياً، لارتكاب عمليات إرهابية ضد الجيش والشرطة والقضاء، ونشر الشائعات والأكاذيب. وتجاهلت المحكمة، في حكمها الذي صدر في الدعوى المقامة من المحامي المعروف بإقامته دعاوى الشهرة وعلاقاته بالداخلية سمير صبري، حقيقة أن قانون الكيانات الإرهابية، الصادر عام 2015 وتعديلاته التالية، تُعرّف الإدراج في قائمة الإرهاب باعتباره إجراء احترازياً لا يعني الإدانة وثبوت الاتهام. كما تجاهلت المحكمة حقيقة أن النيابة العامة خلال تحقيقاتها في قضية تمويل "الإخوان" لم تأمر بحبس أي شخص، بل أخلت سبيل جميع المتهمين الذين استجوبتهم في القضية، وعددهم يربو على 500 شخص، من إجمالي أكثر من 1400 مدرجين في قائمة تلك القضية الوهمية، التي أعدت فقط لتكون سنداً للتحفظ على أموال قيادات الجماعة وعناصرها ومحبيها، فأضحت وسيلة للتنكيل بهم وبأسرهم، اجتماعياً ومهنياً.
وكشفت مصادر قانونية مطلعة على هذا الملف، لـ"العربي الجديد"، أن بعض النقابات المهنية الأخرى، التي ينتمي لها عدد كبير من الأشخاص الذين تم التحفظ على أموالهم، تلقت طلبات لشطبهم بواسطة بعض أعضائها المعروفين بصلاتهم بالأمن الوطني. وأصبح الآن من المتاح رفع دعاوى قضائية، أسوة بالدعوى التي صدر فيها الحكم أمس الأول، والذي يعصف بالمبادئ الدستورية القائمة بحق المواطنين في التنظيم والانضمام للنقابات المهنية، وفي احترام قرينة البراءة، وأن يُعتبر المتهم بريئاً حتى تثبت إدانته بحكم قضائي نهائي.
وقبل صدور الحكم بساعات كان ملف التنكيل بـ"الإخوان" المحبوسين، والمتحفظ على ثرواتهم، على موعد مع تطور آخر عندما قدمت لجنة التحفظ على أموال "الجماعات الإرهابية" التابعة للدولة، طلباً إلى محكمة الأمور المستعجلة لتنفيذ حكم مصادرة جميع الأموال والأملاك التابعة إلى 89 من قياديي جماعة الإخوان المسلمين، سبق أن صدر ضدهم قرار قاضي الأمور الوقتية في محكمة الأمور المستعجلة بتأييد هذه المصادرة في سبتمبر/أيلول 2018، ورُفضت تظلماتهم في ديسمبر/كانون الأول 2018. وطالبت اللجنة بإلزام كل من وزير العدل ورئيس مصلحة الشهر العقاري ومحافظ البنك المركزي، بسرعة تنفيذ الأحكام الصادرة لصالحها، بمصادرة الأموال الخاصة بتسعة وثمانين من قياديي الجماعة، من الصفين الأول والثاني، وعلى رأسهم ورثة الرئيس الراحل محمد مرسي (الذين حلوا بدلاً منه في الدعوى بعد إثبات وفاته في يونيو/حزيران 2019)، والمرشد العام للجماعة محمد بديع، ونائب المرشد خيرت الشاطر.
تتعامل لجنة التحفظ على أموال "الجماعات الإرهابية" مع أحكام قاضي الأمور الوقتية باعتبارها نهائية وواجبة النفاذ
وتأكيداً لما نشرته "العربي الجديد"، في 16 سبتمبر الحالي، وفي ديسمبر/كانون الأول 2018، لم تتضمن المذكرة إضافة أي قيادات لطلب المصادرة. كما تبين أن اللجنة تتعامل مع الأحكام الصادرة عن قاضي الأمور الوقتية باعتبارها "نهائية وواجبة النفاذ" من دون الاعتداد باستمرار نظر الطعون حتى الآن في محكمة مستأنف الأمور المستعجلة، وهو ما يشي بنيّة الحكومة الإسراع في التصرف بالأموال ومصادرتها. علماً بأنه لم تصدر أحكام نهائية للمرة الثانية بالمصادرة إلا ضد عدد محدود من قيادات الجماعة. وإذا استجابت المحكمة لطلب لجنة التحفظ، كما هو مرجّح، فسوف يتوجب على الشهر العقاري نقل جميع الأملاك الخاصة بالمتهمين إلى ملكية الدولة. كما يتوجب على محافظ البنك المركزي الإشعار لجميع البنوك المصرية بنقل ملكية حسابات القيادات المجمدة حتى الآن إلى حسابات الخزانة العامة، ما يُعتبر مصادرة نهائية للأموال.
وهذه المحاولة هي الثانية من لجنة التحفظ لتسريع المصادرة. ففي نهاية العام الماضي أصدرت عدة قرارات سرية، بالمصادرة النهائية لأموال أكثر من 120 شخصاً من المتهمين في قضايا تمويل الجماعة، وإعادة إحياء نشاطها الاقتصادي. وجاء ذلك بعد فترة من الهدوء، كان يعتبرها بعض المراقبين المتفائلين إشارة إلى عدم حسم النظام موقفه المتعلّق بما إذا كان سيمضي قدماً في تنفيذ قرارات المصادرة، وتحمّل التبعات الاقتصادية الخطيرة لها على بيئة الاستثمار أو عدمه، في ظل حالة من القلق بين الشركاء السابقين والحاليين من المستثمرين لبعض كبار رجال الأعمال المتهمين في تلك القضايا. وكانت معظم الشخصيات التي تم إصدار قرارات تنفيذية بمصادرة أموالها، من قيادات الصفين الثاني والثالث من الجماعة، وليس من بينها العديد من رجال الأعمال الكبار، لكن من بينها بعض أصحاب المدارس والمستشفيات المتحفظ عليها منذ عام 2014.
وذكرت مصادر في وزارة العدل أن المضي قدماً في إجراءات المصادرة يأتي استجابة لتعليمات مباشرة من دائرة الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي لم تكن راضية عن الطريقة التي أدارت بها الشركات القابضة والمؤسسات الحكومية عدداً من أكبر المؤسسات الاقتصادية، التي تم التحفظ عليها منذ ست سنوات. وكانت غالبية هذه المؤسسات تعرضت لخسائر فادحة، ما اضطر الإدارات الحكومية الجديدة إلى إغلاق بعضها وتخفيض العمالة، وتقليص حجم العمل لبعضها الآخر، بما في ذلك المؤسسات الاستهلاكية الناشطة في مجال تجارة التجزئة والأجهزة الكهربائية والإلكترونيات والسلع والأثاث. ووفقاً للمصادر نفسها، فإنّ ما أخّر إصدار القرارات التنفيذية بالمصادرة لمدة عامين تقريباً هو وجود خلافات بين جهاز المخابرات، وهو العنصر الأبرز في دائرة السيسي، وبين حكومة مصطفى مدبولي، التي تقترح تصفية بعض المصالح الاقتصادية المتحفظ عليها، والتصرف في أصولها بعد تنفيذ قرار المصادرة، وذلك لعدم استطاعة الدولة إدارتها، أو لحاجتها إلى خبرات نادرة تتطلب بقاء أصحابها فيها.
وأوضحت المصادر أن مقترح التصفية مدعوم من وزارة قطاع الأعمال، التي طلبت إعادة النظر في الشركات والأملاك التي تسلمتها لإدارتها، لعدم ملاءمة بعضها للإدارة الحكومية من الأساس، وافتقار الشركات القابضة للخصائص الإدارية المناسبة لتشغيلها. وأشارت إلى أن وزارة الصحة طلبت السماح لها بدمج بعض المستشفيات والمستوصفات والعيادات الخاصة، التي تديرها حالياً، بعد التحفظ عليها، بواسطة الإدارات الإقليمية بكل محافظة، وذلك بسبب صعوبة التعامل مع الأطباء والممرضين والصيدليات والمرضى بشكل منفصل في هذا العدد الضخم من المنشآت المتحفظ عليها، مقابل انخفاض عدد الأطباء الإداريين المكلفين بتشغيلها، فضلاً عن افتقاد بعض المنشآت مزايا تنافسية تمتلكها منشآت أخرى.
وجاءت الحيثيات التي ذكرها قاضي الأمور الوقتية في أحكام تأييد قرار المصادرة متناقضة بوضوح مع القانون 22 لسنة 2018 بشأن لجنة أموال "الجماعات الإرهابية"، الذي أصدره السيسي في إبريل/نيسان 2018. ذلك لأن القاضي وصف المصادرة بأنها "إجراء احترازي"، على الرغم من أن القانون اعتبرها إجراءً نهائياً، ومميّزاً بينها وبين التحفظ الذي هو إجراء احترازي مؤقت لمنع المتهمين من "ممارسة نشاطهم الإجرامي". وكان الشهر العقاري بمختلف المحافظات قد أنهى منذ عامين حصر جميع الأملاك والعقارات التي كانت مملوكة للمتهمين، وتم إرسالها إلى مكتب وزير العدل السابق حسام عبد الرحيم، استعداداً لنقلها إلى ملكية الخزانة العامة للدولة رسمياً، بعد صدور حكم مستأنف الأمور المستعجلة بتأييد المصادرة والمنتظر صدوره قبل نهاية العام الحالي، إذا أتيح للمتهمين الطعن في المواعيد المقررة.
ويتعارض القانون 22 لسنة 2018، الذي يتيح المصادرة صراحة، مع المادة 40 من الدستور التي تنصّ على أن "المصادرة العامة للأموال محظورة. ولا تجوز المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي". والمقصود بالمصادرة الخاصة هنا أن تحدّد المحكمة الجنائية حصرياً الأدوات أو الأموال التي استخدمها الجاني في عمله الإجرامي، ومن ثمّ تحكم بمصادرتها بعد ثبوت استخدامها في مخالفة القانون، كمصادرة السيارات والأسلحة والمخدرات في قضايا التهريب والقتل والإرهاب، الأمر الذي يختلف تماماً عن حالة الأموال المتحفظ عليها كلها من أشخاص يشتبه في تمويلهم جماعة "الإخوان".
وفي مارس/آذار الماضي، أصدر السيسي تعديلات على قانون الكيانات الإرهابية، تضمنت بنداً له آثاره الخطيرة على المناطق والبيئات التي تنتشر فيها ظاهرة التضامن الاجتماعي لإعانة ذوي المعتقلين، وهو "حظر تمويل أو جمع الأموال أو الأشياء للإرهابي، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر". وهذا النص الفضفاض يمكن تطويعه لمنع إعانة ذوي المعتقل الموصوف إرهابياً. يضاف هذا إلى آثار أخرى ستظل قائمة، هي "حظر الكيان الإرهابي، ووقف أنشطته، وغلق الأمكنة المخصصة له، وحظر اجتماعاته، وحظر تمويل أو جمع الأموال أو الأشياء للكيان، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، وحظر الانضمام للكيان أو الدعوة إلى ذلك، أو الترويج له، أو رفع شعاراته". وفي ما يخص "الإرهابيين"، يتم إدراجهم في قوائم المنع من السفر وترقب الوصول، أو منع الأجنبي من دخول البلاد، وسحب جواز السفر أو إلغاؤه أو منع إصدار جواز سفر جديد، وفقدان شرط حسن السمعة والسيرة اللازم لتولي الوظائف والمناصب العامة أو النيابية.