مونديال قطر... مفارقات عن العنصرية والإسلاموفوبيا والابتزاز

22 نوفمبر 2022
من حفل افتتاح المونديال في الدوحة (كريم جعفر/فرانس برس)
+ الخط -

الحملة الإعلامية على قطر في الأسابيع الأخيرة لا مثيل لها منذ أول دورة للمونديال في عام 1930، التي استضافتها الأوروغواي، ولم تشارك فيها سوى 13 دولة بسبب بعد المسافة، وعدم توافر وسائل مواصلات متطورة كما هو الحال اليوم.

ولم تشارك من أوروبا سوى أربعة منتخبات، وهي فرنسا، بلجيكا، رومانيا ويوغسلافيا. وتثير ضراوة الحملة على قطر وتكثيفها وتعدد أساليبها وخطاباتها عدة ملاحظات تستحق التوقف عندها.

أولاً كلما كان موعد الحدث يقترب، كانت الحملة تزداد قوة، وهذا يعني أنها ليست عفوية، وهناك من يتحكم بها، وينسقها ويقف وراءها ويحركها. ومن غير المستبعد أن تستعر أكثر كلما تقدّم المونديال، على أن تخف حدّتها كثيراً في نهايته في 18 ديسمبر/كانون الأول المقبل، ولكنها ستتواصل بأشكال مختلفة بعده.

والملاحظة الثانية هي المشاركة من قبل صحف تتسم بالجدية والرصانة لا تولي الرياضة اهتماماً كبيراً في العادة، مثل "لوموند" الفرنسية، وذلك بعد أن كانت مقتصرة لفترة طويلة على صحف صفراء مثل "صن" و"ديلي ميل" البريطانيتين.

والملاحظة الثالثة هي أن أحد أهداف الحملة واضح وصريح وهو الابتزاز، وهذا يعني ممارسة ضغط كبير على قطر سياسياً ومادياً، ومحاولة تحجيمها كدولة ذات طموحات سياسية وإعلامية ومالية. وهذا ما يفسر خروج الحملة عن المونديال باتجاه موضوعات سياسية واجتماعية وثقافية، لم يسبق أن دخلت مجال الجدل في نسخ سابقة من المونديال.

مفارقات صارخة في الحملة على قطر

أما الملاحظة الرابعة فهي أن أغلبية الحجج التي تستند عليها الحملة ضد مونديال قطر، كانت موجودة في نسخ أخرى سابقة من كأس العالم، مثل التي نظمتها روسيا (2018) والولايات المتحدة (1994) وكوريا الجنوبية واليابان (2002)، ولكن لم يقف الإعلام أمامها، ما يدل على مفارقات كثيرة، تفضح الكثير مما خفي وراء الحملات الإعلامية. وهناك مفارقات صارخة تبرز في كثير من الحملات وردود الفعل والتغطيات الإعلامية، ويمكن إيراد ما هو فاقع منها:

ـ العنصري الفرنسي الذي يدعو إلى تكرار عملية إلقاء متظاهرين جزائريين في نهر السين في باريس من قبل الأمن الفرنسي، والتي جرت في عام 1961، ويقاتل تحت قبة البرلمان الفرنسي من أجل تشريع قوانين تجرد أبناء المهاجرين الذين ولدوا في فرنسا من الجنسية، وهو نفسه الذي ضُبط متلبساً رافعاً شعارات حقوق الإنسان، ليحامي عن حقوق العمال الأجانب في قطر، ويدعو إلى مقاطعة المونديال لأن قطر، حسب زعمه، استغلت العمال الهنود، وتعامل الأجانب معاملة سيئة.


"قطر بلد يساعد ويرعى الإرهاب"، وهذه معزوفة قديمة سببها مساعدة قطر لنضال الشعب الفلسطيني

ـ العنصري البريطاني الذي يناضل من أجل سنّ قوانين غير إنسانية أو أخلاقية، بخصوص اللاجئين الهاربين من القمع والأوضاع السياسية والاقتصادية في بلدانهم، ويرفع صوته في البرلمان، ويقود تظاهرات في الشارع من أجل إرسال اللاجئين الذين يصلون الأراضي البريطانية إلى رواندا، اكتشف أن ضميره يتحرك فجأة من أجل حقوق العمال الأجانب في قطر.

ـ وسائل إعلام دولية تكتشف أن الديمقراطية من شروط منح شرف تنظيم المونديال لدولة ما، ولذلك تشنّ حملات إعلامية ضد قطر بزعم أنها دولة غير ديمقراطية.

وحين يفتش المرء عن مواقف لهذه الوسائل، ومنها صحيفة "صنداي تايمز" من روسيا حين نظمت الحدث في دورته السابقة، فإنه لا يجد شيئاً ضد حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يمسك السلطات في روسيا بيد من حديد، وغيّر الدستور عدة مرات ليضمن لنفسه حكماً مدى الحياة. هذا عدا عن أنه غزا دولة مجاورة هي أوكرانيا، ضارباً عرض الحائط بالقانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان، وهجّر عدة ملايين من سكانها.

وحين نظمت روسيا كأس العالم عام 2018 كان جيشها يواصل حربه التدميرية في سورية، من أجل حماية رئيس النظام بشار الأسد، الذي استخدم الأسلحة الكيميائية ضد السكان المدنيين، وهي التي قامت بتخليصه من الحساب على جرائمه الكثيرة.

ـ قطر إحدى الدول المساهمة بقوة في الإغاثة الدولية، وهي حاضرة في أماكن الكوارث على نحو متميز، وتصرف مئات الملايين من الدولارات كل عام من أجل مساعدة المتضررين من الحروب والكوارث الطبيعية واللاجئين.

كما تؤدي دوراً أساسياً منذ ثلاثة عقود في فض النزاعات الأهلية في أفريقيا وآسيا، وقامت بوساطات من أجل المصالحة في أكثر من بلد من أجل إرساء الاستقرار، وساهمت بشكل رئيسي في تجاوز كارثة كبيرة، حين قررت الولايات المتحدة الانسحاب من أفغانستان في أغسطس/آب 2021.

وبفضل تدخلها تجنبت هذه الدولة الواقعة في الوسط الآسيوي عودة الحرب الأهلية. كما أن لقطر صندوقاً خاصاً لحماية البيئة والتطوير، أدى أدواراً مشهودة في أفريقيا وماليزيا وأميركا الجنوبية. وبدلاً من أن يرى الإعلام والسياسيون هذا الرصيد الكبير من أجل العمل الإنساني، يستكثرون عليها تنظيم المونديال.

ـ أحد أسباب الحملة على المونديال هو أن قطر دولة تستقبل أفراداً من الإخوان المسلمين على أراضيها، وتسمح لهم بالإقامة والعمل. وهذا صحيح. وهو من حقها كدولة مستقلة، وذات سيادة، ومن ثم فإن هؤلاء ليسوا وحدهم من يعمل في قطر، فهناك تنوع كبير. ثم إن الاخوان ليسوا مطلوبين للعدالة في أي مكان، وغير مصنفين إرهابيين أو خطراً على أمن البشرية.

وإذا كانت دول كبرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة تستقبل الإخوان المسلمين وتمنحهم اللجوء السياسي وحق الإقامة على أراضيها وتمنحهم جنسيتها، فلماذا يجب على قطر أن تغلق أبوابها بوجههم وتعلن عليهم الحرب؟ فهي تستقبل هؤلاء وفق سياسة تعتمد المعايير الدولية التي تتبعها بقية دول العالم، وتعاملهم مثل بقية المكونات البشرية والجنسيات الأخرى الآتية من شتى أنحاء العالم، ولا تميز بينهم وبين أي كائنات أخرى.

ـ "قطر بلد يساعد ويرعى الإرهاب"، وهذه معزوفة قديمة سببها مساعدة قطر لنضال الشعب الفلسطيني، وبرز بشكل خاص أن الدول التي دعت إلى مقاطعة قطر لم يسبق لها أن قاطعت إسرائيل التي تمارس الإرهاب بلا حدود.

ـ "قطر ليست بلد كرة قدم"، ولنعتبر أن ذلك صحيح، ولكن لماذا لم يتم تضمين معايير في نظام "الفيفا" (الاتحاد الدولي لكرة القدم) تحدد بروفايل الدولة التي تستحق استضافة المونديال، حتى يسري على الجميع؟ ثم لماذا لم تتم إثارة الزوبعة ذاتها حين نظمت كوريا الجنوبية واليابان المونديال. هل هما بلدان معروف عنهما أنهما من بين الدول التي تحتل فيها كرة القدم مكانة خاصة مثل بريطانيا أو فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، والأمر ذاته ينطبق على الولايات المتحدة التي لم تصبح فيها كرة القدم شعبية بعد.


تؤدي قطر دوراً أساسياً منذ ثلاثة عقود في فض النزاعات الأهلية

ـ الحملة أوروبية بامتياز، وتتركز في بعض الدول، خصوصاً فرنسا وبريطانيا، ولا يشارك فيها بقية العالم، فلا يعثر المرء على مقالات ذات طابع هجومي على الدوحة في صفحات وسائل إعلام البلدان الأفريقية أو الأميركية الجنوبية، التي تُعدّ بعض بلدانها ذات حضور كروي وتاريخ مشاركة طويل في المونديال، ونظّم بعضها المونديال، مثل البرازيل (2014) والأرجنتين (1978) وجنوب أفريقيا (2010)، والمكسيك (1986). وهذا أمر يطرح أسئلة حول الأسباب والخلفيات.

دور فرنسا وبريطانيا في الحملة على قطر

وهناك بعض الخبراء يرون أن أحد أسباب الحملة على قطر يكمن في فرض سيطرة من فرنسا وبريطانيا على قطر، ومنعها من أن تتحول إلى قوة مستقلة. وتستخدم هاتان الدولتان هذه المناسبة لممارسة أقسى الضغوط، وشتى أشكال الابتزاز من أجل أن يبقى الميزان مختلاً لصالحهما.

ومن ناحية أخرى، يرى متخصصون في الإعلام أن بعض الحملات الإعلامية ضد الدوحة مدفوعة الثمن من قبل أطراف إقليمية، وقامت به شركات معروفة. والسبب من وراء ذلك الانزعاج من نجاح قطر، وليس غيرها، في تنظيم هذا الحدث على أتم وجه. وهذه الحملة ليست سوى أحد تجليات عملية أوسع دامت على عدة سنوات بهدف إفشال الدوحة.

على الهواء مباشرة تتصل قناة "سي نيوز" الفرنسية بمبعوثها إلى الدوحة لتغطية المونديال، ويسأله المذيع عن رحلته وأحواله فيرد أنه بخير ولا ينقصه شي أبداً، ولكنه يعلن بسخرية بأن هناك عدداً كبيراً من المساجد، ويطلق ضحكة بسبب هذا الاكتشاف غير السعيد، ويشاركه الموجودون على منصة البث في باريس السخرية والضحك.

ولولا أن المذيع ينبهه أنه على الهواء وخشية تجاوز القوانين كان من الممكن أن يذهب أبعد من ذلك. وفي الأحوال كافة فإن هذا التصرف الغريب يتجاوز توجيه النقد للحدث والمهمة التي سافر من أجلها صحافي القناة، ويدل بصورة صريحة على عدم احترام للدين الإسلامي. فقطر بلد مسلم ومن الطبيعي أن يكون هناك مساجد، ومن ناحية أخرى، كان في وسع الصحافي أن يعلق ويبدي رأياً حول المساجد من دون سخرية من الأمر.

ومن المعروف أن هذه القناة مملوكة من طرف رجل الأعمال المحافظ فانسان بولوريه، صانع أسطورة السياسي العنصري إريك زيمور، وهي تخصص أغلبية بثها ضد الهجرة وتوفر منبراً مثالياً لخطاب الكراهية ضد العرب والمسلمين. ولذلك لا غرابة في أن تقتات الحملة من مفاهيم عنصرية وإسلاموفوبيا أوروبية، لا علاقة لها بالعمال ولا بالبيئة، وأنها تجد في كأس العالم منصة أخرى لبث سمومها.