جاء إعلان رئيس الائتلاف الحكومي الإسرائيلي في الكنيست، أوفير كاتس، أمس الأربعاء، تأجيل التصويت على مجموعة من قوانين "الإصلاحات القضائية"، كما يسميها الائتلاف الحكومي برئاسة بنيامين نتنياهو، قبل ساعتين فقط من التصويت على مشروع قانون تحديد صلاحيات المحكمة العليا في الهيئة العامة للكنيست، ليعكس بشكل جلي اتجاه نتنياهو إلى التهدئة على الجبهة الداخلية مع أحزاب المعارضة.
ويريد نتنياهو التفرّغ أساساً لمواجهة الضغوط الدولية، التي كانت ذروتها إعلان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ومجموعة من وزراء الخارجية الأوروبيين، رفضهم لقرارات الكابينت الأمني والسياسي لحكومة الاحتلال، يوم الأحد الماضي، بتعزيز الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة وشرعنة تسع مستوطنات، تُعتبر حتى بموجب القانون الإسرائيلي غير قانونية.
لا وقف لعملية "الإصلاحات القضائية"
وبحسب ما أوضح ناطقون ونواب من "الليكود"، فإن تأجيل التصويت على مجموعة القوانين المختلف عليها، لا يعني بالضرورة وقف عملية "الإصلاحات القضائية" أو التنازل عنها، بل هي بادرة حسن نيّة تجاه الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، الذي يلعب دوراً مهماً في الساحة الخارجية لأجل تطبيع وشرعنة حكومة نتنياهو، باعتبارها تمثّل قرار الناخب الإسرائيلي.
ونقلت القناة الإسرائيلية 12 عن أوفير كاتس، قوله إن قرار الائتلاف جاء "إثر طلب رئيس الدولة تمكين استمرار الحوار بنيّة صافية وانفتاح، وبالتالي قررت بالتشاور مع عضو الكنيست موشيه أربيل، تأجيل التصويت على قانون أساس الحكومة". مع ذلك، قال كاتس إن تأجيل التصويت على القانون المذكور، المعروف أيضاً باسم قانون "درعي 2"، "لن يؤثر بمواصلة الإصلاحات القضائية". وقانون "درعي 2" يهدف إلى تمكين الحكومة من إعادة تعيين أريه درعي وزيراً في الحكومة.
كاتس: تأجيل التصويت على قانون "درعي 2"، لن يؤثر بمواصلة الإصلاحات القضائية
ومع إدراك نتنياهو أنّ المعارضة الإسرائيلية ممثلة بالأحزاب الحالية لا تملك قدرة جماهيرية على إحداث تغييرات، أو التشويش على ممارسات حكومته، لأنها ترتكز فعلياً على تأييد 46 عضو كنيست فقط من أصل 120 عضواً، فيما يملك ائتلافه تأييد 64 نائباً، ومع اتجاه المجتمع الإسرائيلي إلى تجنّب إشراك الجمهور العربي الفلسطيني بالداخل في "حركة الاحتجاجات"، وفي ظل السلوك الانتهازي لقيادات حزبية في المعارضة، ولا سيما رئيس تحالف "المعسكر العمومي" الجنرال بني غانتس، الذي يبحث عن فرصة للانضمام إلى الحكومة، تبدو فرص نتنياهو في تفتيت المعارضة الداخلية أسهل بكثير من محاولة إفراغ الضغوط الخارجية من مضمونها، ما لم تظهر حالة تماسك داخلي في إسرائيل، أو على الأقل حالة من الحوار الداخلي بين المعارضة والحكومة، تمكّنه من توظيف هذه الحالة في مواجهة الضغوط الخارجية، والتقليل من الاتهامات له بقيادة إسرائيل نحو نظام لا يحترم حقوق الإنسان ولا الأقليات الدينية.
وهنا المقصود في السياق الإسرائيلي، حقوق المثليين جنسياً، وحقوق الأقليات الدينية اليهودية، بمعنى مجموعات المحافظين والإصلاحيين بين اليهود، الذين يتمتعون بدعم كبير من الجماعات اليهودية الإصلاحية والمحافظة، المحسوبة في الولايات المتحدة على الحزب الديمقراطي، من دون أي علاقة بحقوق الفلسطينيين في الداخل، أو حقوقهم الدينية.
مناورة من نتنياهو
قرار تأجيل التصويت وفتح الحوار مع المعارضة، هو إذاً في الأساس مناورة من نتنياهو، الذي لا يلقي بالاً لمواقف المعارضة، ولا حتى للتظاهرات التي تحشد لها المعارضة، بقدر ما تهمه، كما بيّنت مسألة إخلاء المزرعة الاستيطانية في سهل كفر أستونا جنوبي نابلس، سلامة ائتلافه الحكومي.
وأصدر نتنياهو، أمس الأربعاء، أمراً بوقف عمليات الجيش لإخلاء وقلع أشجار المزرعة الاستيطانية، غير القانونية، بعد ساعات من بدء قوات حرس الحدود باقتلاع الأشجار التي زرعها المستوطنون في المكان.
لكن نتنياهو يرى أن هذه الفسحة من الحوار قد تشع مقابل تنازلات طفيفة لحزب "المعسكر العمومي" بقيادة غانتس، للانضمام لاحقاً إلى الحكومة الحالية، وخصوصاً إذا سمحت له التطورات الداخلية بالتخلص من حزب إيتمار بن غفير، الذي باتت تصريحاته واستفزازاته الفظة تحرج نتنياهو أمام الإدارة الأميركية وأمام جماعات يهودية في الخارج، أكثر مما تحرجه أو تزعجه الممارسات العنصرية الفعلية لحزب "الصهيونية الدينية" بقيادة بتسليئيل سموطريتش.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من أن سموطريتش وبن غفير خاضا الانتخابات بقائمة تحالفية واحدة، بفعل ضغوط نتنياهو نفسه، إلا أن سموطريتش يمثل فعلياً في الوجدان الإسرائيلي تياراً تاريخياً شرعياً له امتداداته المجتمعية في مختلف أنحاء إسرائيل، وليس فقط في المستوطنات. أما بن غفير، فيُنظر إليه على أنه حالة شعبوية من العنصرية الفاشية الفظة التي تفضح ما تحاول أحزاب اليمين، بدءاً من نتنياهو وانتهاءً بسموطريتش، تطبيقه على أرض الواقع، من دون إثارة غضب العالم.
ويظل التصعيد في سياق الاستيطان في المناطق المصنفة "سي"، مسجلاً أصلاً لصالح حزب نفتالي بينت، "يمينا"، الذي تمكّن من ترسيخ فكرة تحويل المناطق الريفية من الضفة الغربية، وضمنها منطقة الأغوار، كمنطقة "متنازع عليها"، ويمكن حسم مصيرها لصالح إسرائيل، من خلال تكثيف الاستيطان فيها، بهدوء ومن دون استفزاز الرأي العالمي.
تفكيك المعارضة الداخلية
ويهدف نتنياهو، عملياً من خطوته تأجيل التصويت على القوانين المختلف عليها، إلى تفكيك المعارضة التي تواجهها حكومته من الداخل، وقطع العلاقة بين المعارضة الداخلية "للإصلاحات القضائية" ومؤيدي المعارضة من الخارج، وإعادة تحديد النقاش حول صلاحيات ودور الجهاز القضائي، باعتباره شأناً داخلياً سيادياً لا يحق للخارج التدخل به، ثم حسم النقاش لصالحه، بعد أن يُبرز تناقضات المعارضة والسلوك الانتهازي لأقطابها، وتصوير جزء من المعارضة كمن يخدمون أجندات خارجية.
يهدف نتنياهو، من تأجيل التصويت على القوانين المختلف عليها، إلى تفكيك المعارضة التي تواجهها حكومته من الداخل
وتسهّل هذه العملية على نتنياهو، حتى وهو "يدفع ثمناً باهظاً" لا يجد مشكلة في دفعه إلى حركة الاستيطان الممثلة جماهيرياً بحزب "الصهيونية الدينية"، التفرغ لإعادة الهروب نحو الملف الإيراني الخارجي، باعتباره ميداناً يسهل عليه تحديد قواسم ومواقف مشتركة مع الدول الغربية، إذ هو ملف ملحّ أيضاً من وجهة نظر الدول الغربية، من جهة، وانطلاقاً من قناعة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بأنه يمكن للملف الفلسطيني أن ينتظر، لأن إمكانات التوصل لتسوية أيّاً كانت الآن، لا تبدو واقعية.