مع عودة "عجوز" الجناح اليساري من حزب "العمال" في البرازيل لويس إيناسيو لولا دا سيلفا "لولا" إلى رئاسة البلاد، بعدما أطاحت صناديق الانتخابات الرئاسية بالشعبوي اليميني جايير بولسونارو، فإن أغلب البلدان الكبرى في أميركا اللاتينية تتجه بالفعل نحو تغيرات مهمة ترسخ بشكل أو بآخر مواقع هذا اليسار الذي يتخذ صفة مختلفة عن التقليد.
وعلى الرغم من ذلك، فإن التحوّلات اليسارية في عدد من الدول ليست معبّدة بالورود، ودونها مخاطر عودة شبح الانقلابات عليها، وبما يشبه "الثورات المضادة" التي شهدها الربيع العربي، كما يصفها لـ"العربي الجديد" ناشط ومحامٍ تشيلي من أصل فلسطيني.
"يسار متجدد" في أميركا اللاتينية
وعاشت الدول الأميركية اللاتينية في السنوات الأخيرة تغيرات كبيرة على مستوى تحولات أنماط الحكم، إذ تستمر ما تسمى "الموجات الحمراء" في اختراق جدران سنوات طويلة من تشديد اليمين قبضته على السلطة في أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية.
سفير فلسطيني: التحولات ممتدة منذ سنوات طويلة، ولم تحدث بشكل سريع
وعلى الرغم من ذلك، تواجه هذه التحولات تحديات جمة يطلق عليها البعض تسمية "ثورات مضادة". فمن المكسيك وهندوراس والبيرو وتشيلي وبوليفيا إلى الأرجنتين وكولومبيا، والبرازيل أخيراً، وغيرها من الدول، قدم اليسار اللاتيني برامج انتخابية لامست مصالح الطبقات الاجتماعية التي عاشت سنوات عصيبة، في ظل أنظمة بعضها انقلابي وآخر "شبه ديمقراطي"، همّشت بصورة رئيسة مصالح السكان الأصليين للبلاد.
اللافت في مجريات هذه القارة، بحسب ما يذكر لـ"العربي الجديد" سفير فلسطيني مقيم في القارة منذ عقود، طلب عدم ذكر اسمه، أنها "تحولات ممتدة منذ سنوات طويلة، ولم تحدث بشكل سريع". ووفقاً لما يضيف عن هذه التجربة، فإن اليسار الذي نتحدث عنه "هو من مدرسة اشتراكية مختلفة عن اليسار التقليدي، بل هو يسار متجدد انبثق من تجربة الموجة الوردية التي عاشتها الدول الأميركية اللاتينية خلال العقد الأول من القرن الحالي".
وفي أغلب دول أميركا الوسطى والجنوبية يبدو أن شعار العدالة الاجتماعية والإصلاحات بات محركاً رئيسياً لانجذاب ناخبي شعوبها، بعدما أدى غياب العدالة طيلة عقود إلى مزيد من الإفقار الذي أطاح بأغلبية الطبقات الاجتماعية المتوسطة، ووسع الفجوة بين الفقراء والأثرياء.
من الواضح أن مدرسة الاشتراكية التي رفعت شعارات رفع الظلم عن الفقراء وشعوب القارة الأصليين، وجدت صداها بشكل مختلف عن التجربة التي عاشتها سابقاً مع محاولات اليسار انتهاج سياسات تثوير سابقة في مجتمعاتها.
فعلى سبيل المثال شهدت تشيلي ترجمة حقيقية لتحالف نقابي مع الاتجاهات اليسارية، من أجل رفع شعار "تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء" وإكثار الحديث عن التأسيس لدولة الرفاه. وحصد هذا التحالف نتائج الاحتجاجات الشعبية التي شهدها البلد في 2019 التي أُطلق عليها اسم "الانفجار الاجتماعي"، موصلاً الرئيس الشاب اليساري غابرييل بوريك إلى السلطة، على الرغم من محاولات اليمين ويمين الوسط عرقلته.
واختار التشيليون بوريك في مواجهة دولة عميقة من إرث الديكتاتورية الانقلابية (1973) على يد أوغستو بينوشيه. ووعد الرئيس الشاب الشعب بزيادة الحد الأدنى للأجور، وجعل التعليم أرخص وتحسين حقوق الأقليات.
وجاءت التطورات في تشيلي لتذكر مجدداً بإمكانية قطع الطريق على تجربة بوليفية تحالف فيها معسكر اليمين لهزيمة اليساري إيفو موراليس، الذي خلفه في انتخابات 2020 لويس آرسي، السائر على نهج الاشتراكية الجديدة في البلد. والتدرج في اكتساب اليسار مصداقية لدى الشوارع اللاتينية عكسته الحالة المكسيكية في عام 2018، حين انتخب الرئيس أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، في الوقت الذي تئن فيه البلاد تحت وقع الفساد والجريمة المنظمة. وفي العام التالي (2019) اختارت الأرجنتين رئيساً يسارياً لها هو ألبرتو فرنانديز.
اليسار في البيرو
وبعدها جاءت البيرو لتختار المدرس والنقابي (من السكان الأصليين ومن حزب ماركسي لينيني) بيدرو كاستيو، بعد عقود من هيمنة اليمين على السلطة في ليما، وإن كانت القصة لم تنتهِ بعد نتيجة محاولات اليمين المتشدد وضع حد للتجربة القصيرة للتحول نحو اليسار.
الحالة في البيرو تقدم نموذجاً لمحاولات عرقلة التحول في القارة، مع ازدياد الاضطراب السياسي، والتبدل المتسارع في المناصب الوزارية، ومحاولات عزل كاستيو بحجة "ارتكابه جرائم تتعلق بالفساد".
وفي 7 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كان من المقرر أن يصّوت البرلمان في محاولته الثالثة على عزل الرئيس من منصبة بحجة العجز الأخلاقي، لكن كاستيو، في محاولة لإفشال التصويت، أعلن حل الكونغرس وتنصيب حكومة طوارئ، فيما تم وصف خطوته بأنها "محاولة انقلاب".
ماريو حذوة: هذه التغيرات قد تؤدي إلى مزيد من الفرز والاصطفاف بين "الأشرار والصالحين"
وأعلن كاستيو أنه سيمضي في انتخابات للكونغرس في فترة قصيرة، بهدف منحه إعداد دستور جديد خلال فترة لا تتجاوز تسعة أشهر. وشهدت البيرو حالة تصادم وتنازع على السلطات، فكاستيو نزع شرعية المحكمة الدستورية، متهماً البرلمان بالعمل على "الإخلال بميزان القوى وسيادة القانون لتأسيس ديكتاتورية".
عجلت خطوات كاستيو في إطاحته وعزله من قبل البرلمان، كما اعتُقل وهو في طريقه إلى سفارة المكسيك (وكأنه سيناريو بوليفيا نفسه في أواخر 2019 مع الرئيس السابق موراليس)، ليجري تنصيب نائبة الرئيس دينا بولوارتي بدلاً منه، كتسوية بين القوى السياسية، بعدما حاول اليمين المتشدد عزلها مع كاستيو.
وسرعان ما تحول الوضع إلى أعمال شغب واحتجاجات قوية في جنوب البيرو (حيث الأغلبية من السكان الأصليين) للمطالبة بالإفراج عن كاستيو، وتعطلت حركة المطارات وقتل أكثر من 28 شخصاً. وأعلنت سلطات ليما في 14 ديسمبر الماضي حالة الطوارئ لمدة 30 يوماً، مُشركة الجيش والأمن في قمع الاحتجاجات، وهي سابقة لم تحصل منذ تسعينيات القرن الماضي (حين كانت البلاد تشهد حرباً أهلية بين السلطة ومجموعات يسارية مسلحة).
نموذج كولومبيا
تقدم كولومبيا أيضاً نموذجاً للتحولات الممكنة رغم العنف. فالبلد الذي عصفت فيه حروب أهلية طويلة نجح فيها اليساري، العضو السابق في حركة "أم 19" المصنفة على أنها كانت حركة تمرد يسارية ضد الحكومات اليمينية، غوستافو بيترو، بالفوز في الانتخابات الرئاسية. ويضاف إلى ذلك حصول الناشطة في مجال الحقوق المدنية من أصول أفريقية فرانسيا ماركيز على منصب نائبة الرئيس، وهذه التحولات في حد ذاتها صورة للرياح الجديدة التي تهب على البلد.
وبعد محاولتين فاشلتين في 2010 و2018، بسبب مقارنة العديدين بين يساريي اليوم والمقاتلين الماركسيين الذين شنوا حروب عصابات ضد السلطة على مدار عقود، لم يكن الفوز حليفاً لبيترو، قبل أن يبدأ الشعب تقبّل اليسار كجزء من حل مشاكله المتفاقمة، إذ يعيش نحو 40 في المائة من الكولومبيين تحت خط الفقر، وفقاً للبنك الدولي، ويوجد في كولومبيا أحد أكبر الانقسامات في العالم بين الفقراء والأثرياء.
فالتركيز في معسكر اليسار ويسار الوسط على اتفاق السلام بين الحكومة و"القوات المسلحة الثورية الكولومبية" (فارك) في عام 2016، اتخذ طابع التشديد على الأجندات الاجتماعية، ما أعطى ذلك اليسار مكاناً في السياسة، وجعل من بيترو بمثابة "المنقذ" للبلد المنقسم على نفسه بعد حكم الرئيس السابق المحافظ المرتبط بشبكات مصالح الأغنياء إيفان دوكي.
المشكلات سبب التحول إلى اليسار
بحسب تقييم نشرته صحيفة "كريستلي داوبلاديت" الدنماركية، قبل فترة لأستاذ الاقتصاد ودراسات أميركا اللاتينية في جامعة كامبريدج البريطانية بيدرو مينديس لوريرو، فإن تفاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في الدول اللاتينية صبت في مصلحة رياح التغيير المتوسع باتجاه اليسار.
ورأى أن "أميركا اللاتينية هي إحدى مناطق العالم التي تضررت بشدة من وباء كورونا، مع عجز النظام الصحي عن مجاراة عواقب ذلك وفقدان الكثيرين لأعمالهم".
وحول هذه التغيرات، رأى عالم السياسة خوان غابرييل غوميز، من جامعة ناسيونال في بوغوتا، في تصريحات نقلتها عنه صحيفة "ويك أند أفيزن" الدنماركية في مايو/أيار الماضي، فإن "اليسار يرسخ نفسه في جميع أنحاء القارة بسبب غياب المساواة الاقتصادية والآفاق اليائسة للمستقبل، وهو ما يجعل الناس يتفاعلون ضد الوضع الراهن، مع رغبات ملحة في التغيير وميل نحو القبول بحكم اليسار".
واتهم كثيرون الرؤساء اليساريون في أميركا اللاتينية بأنهم "شعبويون ويستغلون غضب الناس من الأوضاع المزرية، ويقدمون أنفسهم بمهارة شديدة على أنهم الحل لإنقاذ دولهم من كوارث البؤس الاقتصادي ولأجل تحقيق العدالة الاجتماعية".
واتفق غوميز مع أولئك الذين يقرأون ما يجري من تحولات باعتبارها "نموذجاً كلاسيكياً للشعبوية التي تقدم نفسها كخلاص من النخبة الفاسدة". في المقابل، يتخوف آخرون من أن هذه التغيرات قد تؤدي إلى مزيد من الفرز والاصطفاف بين "الأشرار والصالحين"، على ما يذكر لـ"العربي الجديد" الناشط السياسي، المحامي التشيلي من أصول فلسطينية ماريو حذوة، مضيفاً أن "النبرة والخطاب باتا عدوانيين بين المعسكرين".
أميركا متوجسة من اليسار اللاتيني
كما أن واشنطن، التي تعاملت مع دول أميركا اللاتينية باعتبارها حدائق خلفية لها (وأطلقت على بعضها تسمية جمهوريات موز)، تنظر بتوجس إلى التحولات اليسارية. فتشابك المصالح جعلها تنظر بكثير من الريبة إلى التغيرات في دول القارة، خصوصاً تلك التي تتجه نحو إعادة النظر في العلاقة بالولايات المتحدة، بما فيها كولومبيا التي ارتبطت بعلاقة وطيدة معها منذ عقود.
وأعلن الرئيس الكولومبي أنه سيعيد التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن اتفاقية التجارة الحرة والحرب التي تقودها (بوجود عسكري أميركي) على المخدرات، والتي استهدفت منذ سنوات إنتاج كولومبيا للكوكايين على نطاق واسع.
وأيضاً على مستوى العلاقات الخارجية لم يرق لكثيرين ابتعاد بعض الدول عن السياسات التقليدية لليمين، والتي في أغلبها كانت تصب في سياق سياسات واشنطن، ومنها التراجع عن دعم زعيم المعارضة اليمينية في فنزويلا خوان غوايدو، الذي نصب نفسه رئيساً للبلاد، كما فعلت كولومبيا بسحب اعترافها به.
وعملت الماكينات الإعلامية في أكثر من دولة لاتينية على لعبة تشبيه وصول اليسار إلى السلطة بالواقع الفنزويلي (الذي تتسارع فيها الانهيارات منذ وفاة رئيسها السابق هوغو تشافيز في 2013). ففي ليما، يمكن ملاحظة التحشيد الذي تقوم به الماكينة الدعائية لليمين من أن البلد متجه نحو الانهيار والفوضى على الطريقة الفنزويلية، معيدين ذلك إلى ما يسمونه "تبنياً للثورة الاشتراكية" لتشافيز في عام 1999.
وفي المقابل يراهن معسكر اليسار اللاتيني على تقييد التدخل الأميركي في شؤون دوله الداخلية (كما جرت العادة طيلة فترات حكم اليمين والانقلابيين) من خلال تعاون وثيق يعزز التنمية والمصالح المشتركة لشعوبه.
خوان غابرييل غوميز: اليسار يرسخ نفسه بسبب غياب المساواة الاقتصادية والآفاق اليائسة للمستقبل
ويبدي ساسة المعسكر اليساري في دول مثل تشيلي والبيرو وهندوراس وكولومبيا والأرجنتين والمكسيك والبرازيل رغبة في أن يكون تعاونهم مرضياً لشعوبهم، ولتنفيذ خطط ترسخ الانتقال من حكم أقليات ثرية إلى منح الشعوب أملاً ببرامج تركز على تأسيس الرفاهية والعدالة الاجتماعية، من دون إقصاء يمين الوسط المعتدل من المشاركة في تلك البرامج، لحاجتهم إليه في تمرير تشريعات برلمانية.
"ثورات مضادة" تتربص
وعلى الرغم من أن الموجة الحمراء تتسع في عموم القارة اللاتينية إلا أن تحديات جمة تواجه السلطات الجديدة، في ظل استمرار آثار التراجع الاقتصادي وإفرازات وباء كورونا وارتفاع منسوب التضخم وغلاء تكاليف المعيشة، مع تربّص اليمين في محاولة الانقضاض على التجربة.
ويعني ذلك ببساطة أن تجربة التحولات اليسارية اللاتينية ليست بمعزل عن الانقلاب عليها، إذا نجحت محاولات تطويعها في البيرو، وهو ما قد يعقد المشهد أكثر بانقسامات بين عواصم الدول وأطرافها، حيث تعيش أغلبية الفقراء والسكان الأصليين، وبما ينذر بدخول مجتمعاتها في دورة من العنف الذي اعتقدت أنها وضعت حداً له وللأبد.