تزداد الحالة الليبية تشعّباً مع كل يوم يمر، وتلقي قرارات قادتها بظلالها على المشهد، ما يزيد من حال الصراع المفضي إلى غموض يلف مصير العملية السياسية، وآخرها الجدل حول قرار حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، تعيين فرحات بن قدارة، المقرب من خليفة حفتر، رئيساً جديداً لمجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط.
وصاحَب عملية تعيين بن قدارة في منصبه جدل، فبعد رفض رئيس المؤسسة السابق مصطفى صنع الله، القرار، وتأكيده بطلانه، تمكّن بن قدارة من دخول مقر المؤسسة ظهيرة الخميس، حيث نظّم مؤتمراً صحافياً أكد خلاله تسلّم منصبه، وأعلن عن أول اجتماع للمجلس الجديد يوم الأحد المقبل، أعقبته عدة بيانات محلية أعربت عن رفضها للقرار.
وقال بن قدارة، خلال مؤتمر صحافي: "أعتبر نفسي أمارس هذه المهام وفقاً للقانون، ومن اليوم سأعمل على عودة تصدير النفط إلى أقصى المستويات الممكنة"، وطلب من المعترضين على قرار تكليفه "اللجوء إلى القضاء"، مؤكداً أنه "سيغادر المؤسسة إذا حكم القضاء ضد قرار التكليف".
وفيما تعهّد بن قدارة بالعمل على إعادة تشغيل حقول وموانئ النفط المتوقفة عن العمل منذ مدة؛ أكد أن الأطراف الدولية والمحلية اتفقت على أن تأتي "شخصية ليس لها انتماء سياسي أو إيديولوجي لتدير المؤسسة بشكل محايد ومهني"، متعهداً بعدم إقحام المؤسسة في الصراعات السياسية.
من جانبه، أكد صنع الله أنه لا يزال رئيساً لمؤسسة النفط، مشيراً إلى أن مديري المؤسسة التنفيذيين والشركات التابعة للمؤسسة الوطنية للنفط"، ما زالوا يعترفون به رئيساً للمؤسسة. وأكّد في حديث لوكالة رويترز، أنه لا يزال في العاصمة طرابلس، وطالب المجتمع الدولي بضرورة ممارسة ضغوط لتتراجع حكومة الدبيبة عن قرارها، محذراً من انقسام المؤسسة وظهور مؤسسة موازية لها.
وفيما رحبت وزارة النفط بحكومة الوحدة الوطنية بالقرار؛ سارع صنع الله إلى اتهام بن قدارة باقتحام مقر المؤسسة برفقة قوة تابعة للدبيبة، واستنكر ما وصفه بمحاولة البعض "التحايل على القانون وتنفيذ أجندات خارجية وصفقات مشبوهة بقوة السلاح"، محملاً الدبيبة وأعضاء المجلس الجديد المسؤولية القانونية. وأعلن عن تقدمه للنائب العام بشكوى رسمية لحماية المؤسسة، متهماً الدبيبة بمحاولة إرضاء دولة الإمارات عبر قراره، لضمان البقاء في رئاسة الحكومة.
في المقابل، تقدّم الدبيبة بشكوى للنائب العام ضد ما بدر من صنع الله من أعمال وتصرفات وصفها بالمجرمة قانونياً، مطالباً النائب العام بالتحقيق معه بشأن تصريحاته الأخيرة التي قدح خلالها في ذمته وذمة وزير النفط وبعض المسؤولين، مشيراً ضمن الشكوى إلى أن صنع الله "تعرض لعلاقة ليبيا مع الغير بشكل مغرض، وهو ما يلحق ضرراً بمركز ليبيا وعلاقاتها الخارجية".
من جهة أخرى، لاقى قرار الدبيبة رفضاً من جانب المجلس الأعلى للدولة، الذي طلب رئيسه خالد المشري، من الدبيبة، سحب قراره، وبذل المجهود الأكبر من التوافق بين وزارة النفط والمؤسسة حتى يزداد الإنتاج ويستقر.
وحذر المشري من تداعيات تغيير مجلس الإدارة في الوقت الحالي، موضحاً في رسالة للدبيبة أنه "قد يؤدي إلى تفكيك المؤسسة وانقسامها، ووقوع كارثة حقيقية على الاقتصاد الوطني"، إلا أن الدبيبة اعتبر رأي المشري "استشارياً"، ووصفه بـ"غير الملزم"، وردّ عليه بقوله: "هذا الأمر لا يعنيكم، وليس في نطاق اختصاصاتكم".
وأعلنت شركتا الخليج العربي والواحة النفطيتان عن ترحيبهما بقرار تغيير مجلس الإدارة، في تغريدات على حسابات الشركتين، إلا أن "الواحة" حذفت تغريدتها بعد أقل من نصف ساعة، فيما لم تعلن بقية الشركات النفطية عن مواقفها من القرار، وما إذا كانت ستتعامل مع صنع الله أو بن قدارة.
لكن اللافت كان غياب مجلس النواب الليبي، والحكومة المكلفة منه برئاسة فتحي باشاغا، عن الجدل المصاحب لحدث تغيير مجلس إدارة المؤسسة، كما لم يبدِ الطرفان موقفهما؛ بالقبول أو الرفض.
وفي السياق، أكد الباحث في الشأن السياسي والدستوري، محمد محفوظ، أن القانون يخول مجلس الوزراء بتكليف مجلس إدارة جديد لمؤسسة النفط، لكنه لفت إلى أن الجدل القانوني يكمن في "ولاية حكومة الدبيبة وقانونيتها".
وتوقّع محفوظ، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن تأتي شكوى صنع الله للنائب العام في إطار عدم اختصاص حكومة الدبيبة، مضيفاً: "الشكوى مقدمة للقضاء الإداري بعدم ولاية حكومة الدبيبة، وبالتالي عدم قانونية تغييرها لمجلس الإدارة".
ورغم الجدل القانوني؛ فإن محفوظ يرى أنّ خطوة تغيير مجلس الإدارة "جاءت في إطار صفقة سياسية عقدها الدبيبة مع الطرف العسكري الممثَّل في حفتر، من أجل البقاء في السلطة لسنوات مقبلة".
ويعد بن قدارة، آخر محافظ للبنك المركزي في عهد النظام السابق، من الشخصيات المقربة من حفتر، كما أنه من المقربين من صناع القرار في دولة الإمارات.
ولم يستغرب محفوظ صمت مجلس النواب والحكومة التي كلفها عن قرار الدبيبة، موضحاً أنّ "مجلس النواب لا يستطيع الإدلاء بردّ واضح، لكن هناك تعليقاً من رئيس لجنة الطاقة بالمجلس، عيسى العريبي، برفض هذا التغيير، لأنه على علاقة وثيقة بصنع الله، لكن مجلس النواب لا يستطيع تبني رد رسمي وواضح باعتبار الضغوط الممارسة عليه من قبل حفتر، وحتى تتضح له الرؤية". ومن جهة أخرى، فإنّ تأييد مجلس النواب لتغيير مجلس إدارة المؤسسة سيعدّ "بمثابة اعتراف بحكومة الدبيبة، الأمر الذي يعني نهاية مشروع عقيلة وباشاغا إلى الأبد"، بحسب محفوظ.
وأكد محفوظ وجود علاقة وطيدة بين حفتر وبن قدارة، مرجحاً أن يكون "حفتر هو من رشّح بن قدارة لشغل المنصب"، على الرغم من أن "بن قدارة لا ينتمي لقطاع النفط، وبالتالي لا نتوقع تحسناً في العمل النفطي. وفي اعتقادي، أداء المؤسسة لن يتغير لأن القرار السيادي في المؤسسة ليس وطنياً، بل بيد دول متداخِلة في ملف النفط".
محفوظ عن خطوة تعيين بن قدارة: جاءت في إطار صفقة سياسية عقدها الدبيبة مع الطرف العسكري الممثَّل في حفتر، من أجل البقاء في السلطة لسنوات مقبلة
ويقر الباحث في الشأن السياسي، خليفة الحداد، بإمكانية أن يعكس قرار تعيين بن قدارة ملامح حلف جديد بين الدبيبة وحفتر، ولكنه في الوقت ذاته يرى أنّه من المبكر الحديث عن نجاح الدبيبة في إنفاذ قراره.
ويصف الحداد في حديث لـ"العربي الجديد"، القرار بـ"الفجائي والمربك"، وقال: "المواقف لم تتضح، ليس في الداخل على صعيد مجلس النواب الليبي وحكومته فحسب، بل حتى لدى الدول المعنية بملف النفط الليبي"، مشيراً إلى أنّ بياني السفارتين الأميركية والبريطانية جاءا غير واضحين.
وكان السفير الأميركي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، قد عبّر عن قلقه حيال التطورات في المؤسسة الوطنية للنفط الليبية، مشيراً إلى أنها "حيوية لاستقرار ليبيا وازدهارها"، وأنها "ظلت مستقلة سياسياً وتعمل بكفاءة تقنية تحت قيادة مصطفى صنع الله". وربط نورلاند بين استقرار المؤسسة وبين الوضع السياسي، قائلاً: "هل سيدرك القادة الليبيون من جميع الأطراف أن هذه التطورات تظهر مرة أخرى الحاجة الملحة لإرادة سياسية تصل إلى حل وسط، وتهيئة المرحلة الفورية للمصالحة والانتخابات؟".
وفيما لم يصدر عن الدول الأخرى المعنية بالملف الليبي أي تعليق؛ اكتفت السفارة البريطانية بالتعبير عن قلقها إزاء وضع المؤسسة، وطالبت بضرورة حمايتها واحترام استقلاليتها وسلامتها، وقالت: "تشارك المملكة المتحدة آراء وقلق زملائنا بالسفارة الأميركية".
حداد: من المبكر الحديث عن نجاح الدبيبة في إنفاذ قراره
وهي بيانات تشير، بحسب الحداد، إلى غياب الرؤية حتى الآن لدى المجتمع الدولي بشأن قرار تغيير مجلس إدارة المؤسسة، وأضاف: "أعتقد أن تسلّم بن قدارة لمهامه أمر لا يزال بعيداً، فالرأي الدولي مفصلي في ملف النفط الليبي".
ويلفت الحداد إلى أن الخطوة "قد تكون بالفعل مدعومة من الإمارات، ووجد فيها الدبيبة سبيلاً لدعم بقائه، لكن استخدام ورقة النفط في الصراع السياسي سيكون مزعجاً لعدد من الدول التي ستمنع ذلك، وربما ترجع صنع الله إلى منصبه".