أحيا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، القاضي بإنشاء مؤسسة مستقلة تعنى بالمفقودين والمخفيين قسرياً في سورية، آمال آلاف الأسر التي فقدت أبناءها منذ نحو عشر سنوات، لمعرفة مصيرهم.
وتقول الحاجة صفية عثمان ذات الستين عاماً، وهي تطالع عبر الهاتف صورة ابنها الثلاثيني مصطفى الذي انقطعت أخباره منذ عشر سنوات، إنها لا تعلم مصيره أو في أي منطقة فقد، أو إن كان قد اعتقل من قبل أحد الفروع الأمنية، أم اختطفته إحدى المليشيات.
وانقطعت أخبار مصطفى عندما كان عائداً من لبنان لقضاء استراحة في قريته بريف حماة، كما اعتاد في كل مرة. وتروي عثمان لـ"العربي الجديد" ما حصل مع ابنها حينها، قائلة: "يومها تحدث معنا وأخبرنا بأنه دخل الأراضي السورية ويلزمه نحو أربع ساعات ليصل القرية، مرت الساعات ولم يصل، حاولنا الاتصال به، لكن هاتفه كان مقفلاً، صبّرت نفسي عبر إيهامها بأنّ شحن بطارية هاتفه نفد، وأنه تأخر بسبب قطع الطرق نتيجة العمليات العسكرية، انتظرت تلك الليلة على أحرّ من الجمر، كانت من أطول الليالي التي عشتها، إلا أنه لم يعد حتى الآن".
وتابعت الحاجة عثمان وهي تجلس أمام خيمة في مخيم الكرامة شمالي إدلب شمال غربي سورية: "حاول أحد أشقائه البحث عنه، إلا أنّ كل الطرق كانت مسدودة أمامه، فلم نعرف في أي منطقة فُقد، وهل جرى اعتقاله من قبل أحد الأفرع الأمنية، أم خُطف من قبل إحدى المليشيات.. كنت أنتظر أن يتصل بنا أحدهم ويطلب فدية كما حدث مع كثيرين إلا أن هذا الأمر لم يحدث.. نشرنا صورة ومعلومات عنه. سألنا في المستشفيات والمخافر ولم نصل لأي معلومة، وأنا ما زلت أعيش على أمل عودته أو سماع خبر عنه".
تعد قصة الحاجة صفية عثمان مع اختفاء ابنها، واحدة من آلاف القصص التي تكاد لا تخلو أسرة سورية منها. وتضاعفت أعداد المعتقلين والمفقودين منذ اندلاع الاحتجاجات ضد نظام بشار الأسد في مارس/ آذار عام 2011، ليصل العدد إلى نحو 156 ألف شخص، وفق ما أفاد به مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني.
وأوضح عبد الغني، خلال حديث مع "العربي الجديد"، اليوم الجمعة، أنّ البيانات الموجودة لدى الشبكة تمثل "الحد الأدنى الذي تمكّنت الشبكة من توثيقه"، مشيراً إلى أنّ من بين الـ156 ألف مفقود، يوجد 112 ألف مختف قسرياً معتقلين لدى أطراف الصراع المختلفة، منهم 96 ألف مختف قسرياً في سجون النظام، بنسبة تصل إلى 86% من مجموع السوريين المختفين قسرياً.
إنكار متكرر
واعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً لإنشاء مؤسسة للكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسرياً في سورية. وصوتت 83 دولة لصالح القرار، و11 دولة ضده، فيما امتنعت 62 دولة عن التصويت، بينها كثير من الدول العربية، حيث لم تؤيد القرار من الدول العربية سوى قطر والكويت.
وعارض القرار 11 دولة، بينها حلفاء النظام السوري، روسيا والصين وإيران، إضافة إلى النظام نفسه الذي اعتبر من خلال مندوبه في الأمم المتحدة بسام صبّاغ، القرار "مسيساً وتدخلاً صارخاً" في شؤون سورية الداخلية.
ولا تملك آلاف الأسر السورية، التي فقدت أبناءها منذ سنوات، أي وسيلة للتحقق من مصيرهم، بسبب سياسة الإنكار التي يواظب عليها المتهم الرئيسي في هذه القضية، وهو النظام السوري، الذي يدّعي عدم وجود أي معتقلين سياسيين لديه.
وزعم صباغ أنّ حكومة نظامه "لم تتوان عن التعامل مع موضوع المفقودين السوريين، انطلاقاً من أنها مسألة وطنية سوريّة"، مطالباً بالتركيز على "آلاف المفقودين الذين سقطوا ضحايا لأعمال العدوان العسكري الذي شنّته الولايات المتحدة، وآلاف المفقودين الذين اختطفتهم المجموعات العميلة للقوات الأميركية الموجودة بشكلٍ غير شرعي في شمال شرق سورية".
واتهم صباغ بعض الدول الغربية التي لم يسمّها بأنها "قادت حملاتٍ ممنهجة حول موضوع المفقودين في سورية، وذلك من خلال إطلاق ادعاءات مفبركة وغير صحيحة، وتداول أعدادٍ مضخّمة للمفقودين"، بحسب قوله.
كما أكد عدم مشاورة النظام السوري خلال المناقشات التي جرت لإنشاء المؤسسة المذكورة، ملمّحاً إلى أنّ نظامه لن يتعاون مع هذه المؤسسة، بتأكيده "رفض سورية القاطع ما ورد في مشروع القرار جملةً وتفصيلاً".
إشادات بالقرار
إلى ذلك، أشادت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أمس الخميس، عبر حسابها في "تويتر"، بـ"المبادرة التي تشتد الحاجة إليها"، مضيفة: "للعائلات الحق في معرفة مصير ومكان وجود أقاربها للمساعدة في مداواة جراح المجتمع كله".
من جهته، قال المسؤول في منظمة "هيومن رايتس ووتش" لويس شاربونو، أمس الخميس، في تغريدة على "تويتر"، "يجب على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ضمان حصول هذه المؤسسة الجديدة على الموظفين والموارد اللازمين"، مؤكداً أنّ الشعب السوري لا يستحق أقلّ من ذلك.
.@hrw: "UN member countries should ensure that this new institution has the staff and resources necessary to determine what happened to so many thousands of people who vanished during #Syria’s 12 years of conflict. The people of Syria deserve no less.” 3/x pic.twitter.com/3hkbDaXyrA
— louis charbonneau (@loucharbon) June 29, 2023
بدورها، وصفت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سورية قرار إنشاء المؤسسة بـ"التاريخي". وقال رئيس اللجنة باولو بينيرو، في بيان، أمس الخميس، إنّ هذه الخطوة "جاءت أخيراً لمساعدة عائلات جميع من اختفوا قسرا وخُطفوا وعُذبوا واحتجزوا في الحبس التعسفي بمعزل عن العالم الخارجي على مدى السنوات الـ 12 الماضية".
وإضافة إلى المساعدة في البحث عن مصير المفقودين، فإنّ الهيئة الجديدة مكلفة بتقديم المساعدة، بما في ذلك المساعدة النفسية والاجتماعية التي تمسّ الحاجة إليها بالنسبة للعائلات والناجين.
الناشط أنور البني: "إنشاء المؤسسة إضافة لقضية المفقودين، وستحرج النظام السوري والدول العربية التي تحاول التطبيع معه".
أهداف إنسانية.. لا تحدد المسؤول عن الإخفاء
من جهته، قال المحامي والناشط السوري في مجال حقوق الإنسان عبد الناصر حوشان، لـ"العربي الجديد"، اليوم الجمعة، إنّ "لجنة التحقيق حول آلية إنشاء مؤسسة المفقودين أوردت الأسباب الموجبة لإنشائها، كما وضعت تصوراتها للآليات والسبل الكفيلة بتحقيق نجاحها، من خلال مجموعة من التوصيات، مثل أن تكون محايدة، ومستقلة، وذات مصداقية، وشاملة، ويمكن الوصول إليها، وأن تركز على الأهداف الإنسانيّة في معرفة وكشف مصير المفقودين، دون الدخول في موضوع العدالة الجنائيّة، وتحديد المسؤول عن الإخفاء والاعتقال التعسّفي، باعتبار أن ذلك سيكون أداة قوية للبحث عن المعلومات ذات الصلة عن المفقودين، وجمعها في سياقاتها الإنسانيّة فقط".
وأضاف أنّ تمويل المؤسسة يجب أن يكون من الموازنة العامة للأمم المتحدة، وسيكون عليها التركيز على عائلات الضحايا، وجمع كل البيانات المتوزعة على عدد من اللجان والهيئات ذات الصلة، وتوحيدها ضمن إطار عمل اللجنة.
مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان: كل الجهود الدولية لم تتمكن حتى الآن من إطلاق معتقل واحد أو الكشف عن مصير مختف قسري واحد
في المقابل، وصف المحامي والناشط الحقوقي أنور البني إنشاء المؤسسة، بأنه "خطوة مهم ستشكّل إضافة لقضية المفقودين، وتطرحها مجدداً أمام المجتمع الدولي، وستحرج النظام السوري والدول العربية التي تحاول التطبيع معه".
غير أنّ البني أكد، في حديث مع "العربي الجديد"، اليوم الجمعة، أنّ المطلوب هو إنشاء محكمة دولية لمعاقبة مرتكبي الانتهاكات، معرباً عن اعتقاده بأنّ مهمة المؤسسة ستركز بشكل أساسي على جمع بيانات حول قضية المفقودين والمعتقلين، موضحاً أنّ "جمع البيانات كلها لدى جهة دولية واحدة موثوقة مثل الأمم المتحدة، هو أمر مهم، لكن الأهم هو إنشاء محكمة دولية تنظر في هذه الأدلة وتحاكم المرتكبين، خاصة أن جميع الأدلة موجودة لدى المنظمات السورية التي قامت بجهود جبارة لتوثيق الجرائم التي حصلت في سورية خلال الـ12 عاماً الماضية".
تحذيرات من المبالغة في التوقعات
وحول الأشخاص المقصودين بالعمل المتوقع للمؤسسة، أوضح مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، في حديثه مع "العربي الجديد"، أنّ مصطلح "المفقودين" هو المفهوم الأوسع، مشيراً إلى أنه "قد يكون شخص ما غرق أو توفي، ويعتقد أهله أنه معتقل، لكن أغلب المفقودين هم مختفون قسرياً، أي معتقلون، وعلى الأغلب لدى النظام السوري".
وحذر عبد الغني من المبالغة في التوقعات بشأن إنشاء هذه المؤسسة، مذكّراً بأنّ "كل الجهود الدولية لم تتمكن حتى الآن من إطلاق معتقل واحد أو الكشف عن مصير مختف قسري واحد".
وأضاف: "نحن طالبنا بتشكيل آلية أممية للكشف عن مصير المفقودين منذ أواخر 2011 حين كانت حصيلة المفقودين لا تتجاوز 27 ألف شخص، كلهم تقريباً لدى النظام السوري، وكثيرون ماتوا تحت التعذيب".
وحول الفائدة المتوخاة من عمل هذه المؤسسة، قال عبد الغني "نحن بحاجة لهذه الآلية الخاصة المتوقع منها أن تضع هذا الملف على طاولة الحل السياسي بحيث لا يكون هناك حل دون معالجة هذه القضية، إضافة إلى المطالبة بكشف مصير هؤلاء المفقودين، والسماح بزيارات لذويهم، فضلاً عن جمع بيانات عن المختفين، وأن تكون المؤسسة صلة وصل بين الجهات المختلفة التي تتابع هذه القضية".
وأعرب عبد الغني عن اعتقاده بأنّ الآلية الجديدة لن تتمكن من الكشف عن مصير المعتقلين، وأن النظام والجهات الأخرى لن يتعاونوا معها، كما أكد أنّ ولايتها لا تنص على محاسبة مرتكبي الانتهاكات.
وأشار إلى وجود آليات أممية أخرى تملك ولاية أعلى من ولاية هذه المؤسسة، مثل لجنة التحقيق الدولية، و"لم تستطع فعل شيء للمعتقلين، علماً أنّ هذه اللجنة يمكنها التحقيق وتسمية المنتهكين، ورغم ذلك لم تتمكن من فعل شيء للمعتقلين، بسبب عدم وجود ضغوط دولية كافية على النظام السوري".