حتى صباح أمس الثلاثاء، لم يكن لدى وزيرة الخارجية البريطانية والمرشّحة لمنصب رئيس الوزراء، ليز تراس، أي شكوك حول فوزها ضد منافسها وزير المالية المستقيل ريشي سوناك، الذي لم يستسلم بعد ولم يتخلّ عن أمله في كسب المزيد من الأصوات.
يناور سوناك كل يوم ويقدّم تنازلات إضافية في ملفّات أساسية كغلاء المعيشة وتخفيض الضرائب، وسيستغلّ في الأيام القادمة "زلّات" منافسته التي أعلنت أمس تخلّيها عن خطة خفض أجور العاملين في القطاع العام في المناطق الأكثر فقراً في المملكة المتحدة، مما أثار استهجان كافة الأحزاب، بما فيها "حزب المحافظين".
تؤكد المؤشرات أن تراس وسوناك في طريقهما لتحطيم خطط أحدهما الآخر ووعوده الانتخابية وموقعه في الحكومة، وهما يحطّمان بذلك في كل يوم فرص "حزب المحافظين" للفوز في الانتخابات العامة القادمة.
الأولوية بالنسبة للمرشَّحين في هذا السباق هي كسب أصوات ما يقارب الـ160 ألف ناخب من الحزب، معظمهم في أواخر الخمسينات أي على وشك التقاعد، إلا أن هذه الأولوية لا تضمن أصوات عموم البريطانيين في الانتخابات العامة القادمة المقررة في 23 يناير/كانون الثاني 2025 على أبعد تقدير.
ويبدو أن تراس وسوناك نسيا سريعاً نتائج الانتخابات الفرعية الكارثية بالنسبة للحزب، حيث حطّم "الحزب الديمقراطي الليبرالي" جدار المحافظين الأزرق في عقر دارهم في تيفرتون وهينتون، محقّقاً "انتصاراً تاريخياً"، فأضحى أول حزب حاكم يُبلى بهزيمة مزدوجة في انتخابات فرعية منذ عام 1991. كما أنهما لم يقرآ أبعاد هذه الهزيمة المدوية والمعاني التي تنطوي عليها ولم ينشغلا في تحليل تداعياتها وفي استباق الأسوأ بالنسبة لمصيريهما السياسي ولمصير الحزب.
يبدو أن تراس وسوناك نسيا سريعاً نتائج الانتخابات الفرعية الكارثية بالنسبة للحزب
وليس تجاهل تراس وسوناك لأزمة الحزب مستغرباً، فهما كانا مع آخرين من أشدّ المدافعين عن زعيمهم بوريس جونسون في عزّ تورّطه في سياسات لم يتورّط فيها أي رئيس حكومة بريطاني آخر. لم يوقظهما خرقه للقانون ولا صفة الكاذب التي لاحقته في كل استطلاعات الرأي على مدى أكثر من ثلاثة أشهر. لم تعكّر صفوهما الغرامة التي حصل عليها من الشرطة، ولم يشعرا بالقلق بعد أن نجا من التصويت على حجب الثقة، رغم أنه خسر 41 بالمائة من أصوات حزبه، وتالياً لم يشعرا بالخطر عندما تقدّم "حزب العمال" المعارض ومعه "الحزب الديمقراطي الليبرالي" في الانتخابات الفرعية.
ثم ظنّا أن شخص جونسون هو العائق الأكبر أمام مستقبلهما ومستقبل الحزب، وأن مجرّد استقالته ستكون كفيلة بإنقاذ الدمار الذي أحدثه هو وحكومة كانا جزءا أساسياً منها ومن مصائبها في السنتين الأخيرتين. إلا أن حديثاً عابراً مع الجيران ومع المارّين في الشارع ومع زبائن المقاهي والمطاعم والحدائق يوحي بعكس ذلك. ثمة مؤشّرات حقيقية وجدية تعكس تراجع شعبية الحزب بين الناخبين وفقدان أعضائه لورقة عدم توفّر البديل السياسي عند الأحزاب المعارضة. فعندما لم يجد الناخبون في مناطق "محافظة" أباً عن جد ما يمثّل تطلّعاتهم لا لدى حزبهم ولا لدى "حزب العمال"، عثروا على حزب ثالث "الديمقراطي الليبرالي" في سعي لاكتشاف مقدرات جديدة من جهة، وفي تعبير صارخ عن الإحباط من أداء حزبهم من جهة أخرى.
تشدّد حكومة المحافظين لم يأتِ تلبية لمطالب الشارع
والحقيقة أن تشدّد حكومة المحافظين لم يأتِ تلبية لمطالب الشارع، والأولوية التي توليها الحكومة لمحاربة المهاجرين على سبيل المثال ليست جديدة بالنسبة لحزب يميني كان سبّاقاً في توطيد بيئة معادية للآخر.
لكن السؤال المطروح اليوم هو ما مدى التواصل بين المرشّحين لرئاسة الحكومة وبين الناخب الذي تثير قضية غلاء المعيشة قلقه أكثر بكثير من قضية الهجرة.
الأغلبية التي صوّتت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تبدّلت مع تبدّل الكثير من المعطيات والوقائع. وفي حين كانت مسألة الهجرة والمخاوف منها أساسية في استفتاء "بريكست" إلا أن استطلاعات الرأي الحديثة تظهر أن الهجرة لم تتوقف بعد "استقلال" بريطانيا (البارحة فقط عبر القناة الإنكليزية 700 مهاجر في أعلى نسبة خلال يوم واحد)، إلا أن المخاوف من الهجرة تراجعت بشكل لافت بين البالغين، حيث انخفض القلق بشأن هذا الملف إلى النصف منذ استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
قام موقع الإحصاء YouGov باستطلاع طويل الأمد للقضايا التي يعتبرها الناخب البريطاني أكثر أهمية من غيرها، وقد شهد ملف الهجرة كواحد من القضايا المهمة انخفاضاً بأكثر من النصف منذ عام 2016، في حين بات ملف الاقتصاد وغلاء المعيشة في مرتبة أعلى بالنسبة للقضايا التي تهمّ الشارع.
من البديهي أن تكون فاتورة الغاز والكهرباء اليوم أشدّ إيلاماً من تدفّق المهاجرين، لكن من غير المفهوم أن تصرّ الحكومة على تجاهل مخاوف الناخب، وأن تحوّل التطرّف والتشدّد عنواناً عريضاً للتنافس بين المرشّحين. إذ تجسّد الشعبوية التي يتسلّح بها المتنافسان، نزعة محافظة جديدة غير تلك التي قدّمها جونسون طوال السنتين الماضيتين. فجونسون أتى رئيساً للوزراء عقب انتخابات عامة، مستوعباً بشكل تدريجي أولويات الحزب وأولويات شريحة من الناخبين، ولم تسعفه سياسته الشعبوية ولا تشدّده في ملفات عديدة كملف الهجرة وملف "بريكست" في إنقاذ شعبيته. ثمة مؤشرات على تغيير كبير داخل الحزب يتجلّى في اختفاء الجناح الليبرالي منذ أن أصبح جونسون زعيماً، وفي تكريس "التطرّف" كقاعدة أساسية.
تحول مواقف أعضاء حزب المحافظين بشأن الهجرة
أشار استطلاع للرأي أجرته منظمة "هوب نات تو هيت" التي تراقب موقع اليمين الشعبوي واليمين المتطرف إلى "تحول ملحوظ" بين أعضاء حزب المحافظين بشأن الهجرة بين عامي 2018 و2020 وإلى تحول مركز الثقل في الحزب إلى اليمين بشكل كبير.
يبقى أن هناك الكثير من الدلائل على أن المرشّحين ربما أساؤوا قراءة ما يتطلّع إليه الناخبون وما يؤرق عيشهم. والدليل الأبرز اليوم هو انشغال الصحافة البريطانية واستطلاعات الرأي بقضايا الأجور وغلاء المعيشة وخطط المرشّحين لمواجهة الضرائب والتضخّم أكثر بكثير من الانشغال والتركيز على القضايا التي أظهر فيها المتنافسان تشدّداً أكبر كقضايا الهجرة و"بريكست".
ريشي سوناك متّهم اليوم بالتراجع والتحول الدراماتيكي بعد أن تعهّد بخفض ضريبة القيمة المضافة على فواتير الطاقة، وليز تراس تلاحقها التهمة ذاتها بعد أن تراجعت عن خفض أجور القطاع العام في المناطق الأكثر فقراً في المملكة المتحدة، في خطوة وصفتها الصحافة بـ"النكسة الخطيرة".