لم تنجح زيارة الوفد المصري الرسمي إلى واشنطن، الذي ضمّ الرئيسة الجديدة للمجلس القومي لحقوق الإنسان، مشيرة خطاب، وعضو المجلس محمد أنور السادات، ورئيس مبادرة الحوار الدولي وعدد من أعضاء المبادرة، في تبديد رفض الدوائر السياسية والحقوقية الأميركية الرسمية وغير الرسمية، لاستمرار حالة القمع السلطوية التي تعيشها مصر منذ ثماني سنوات، على المستويات السياسية والحقوقية والإعلامية. فقد جدّد فريق من وزارة الخارجية الأميركية، التقى بأعضاء الوفد يوم الخميس الماضي، التأكيد على أهمية تلبية شروط محددة للإفراج عن باقي مبلغ المعونة الأميركية المعلق بقيمة 130 مليون دولار، وإعطاء الضوء الأخضر للجهات الأميركية المانحة لزيادة ضخّ مساعداتها للحكومة والمجتمع المدني في مصر، وتقديم مساعدات مالية ولوجستية مباشرة للنظام الحاكم، لتمكينه من تنفيذ مشاريع اقتصادية واجتماعية جديدة نصّت عليها الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي أطلقها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي في شهر سبتمبر/أيلول الماضي.
حاول أعضاء الوفد إقناع النخبة الأميركية بالتغاضي عن النقاط الخلافية
وقالت مصادر دبلوماسية مطلعة، لـ"العربي الجديد"، إن الجولة التي تعتبر أول مهمة رسمية لخطّاب ومبادرة الحوار الدولي، شملت لقاءات مع نواب في الحزبين الديمقراطي والجمهوري وعدد من المعاهد السياسية ومراكز الفكر وبيوت الخبرة وصنع القرار السياسي، إلى جانب اللقاء بعدد محدود من المعارضين المقيمين في الولايات المتحدة، وبعضهم حضروا من خارج واشنطن، للاستماع إلى رؤاهم، وسط تطمينات من السادات تحديداً بإمكانية البناء على أفكارهم التي يمكن قبولها لتقريب وجهات النظر بين النظام والمعارضة.
وأضافت المصادر أنه قد تم اختيار خطاب لرئاسة هذا الوفد، لاستغلال صلاتها الواسعة في الولايات المتحدة والتي استخدمها النظام من قبل للترويج لأفكاره عقب الإطاحة بحكم جماعة "الإخوان المسلمين" والرئيس المنتخب محمد مرسي، في جولات أجرتها على مرحلتين عامي 2013 و2015، لكن الإشكالية هذه المرة أن أعضاء الوفد وخطابهم لم يكونوا يستهدفون إقناع النخبة الأميركية بضرورة استمرار النظام الحالي، ولكن باستمرار التغاضي عن النقاط الخلافية وتصدير صورة مغايرة للسائدة عن سياسات النظام الداخلية.
أما عن الاستعانة بالسادات ودعمه بعدد من النواب المقربين للسلطة في مبادرة الحوار الدولي، فهذا يهدف إلى ترويج صورة متوازنة عن كيفية إدارة النظام لملفاته الداخلية، والادعاء بمنح المساحة لشخصيات غير محسوبة على السلطة، كالسادات وعضو مجلس حقوق الإنسان الآخر جورج إسحق، على الرغم من أنهما الوحيدان في التشكيل الجديد للمجلس اللذان لا ينتميان لمعسكر الموالاة المطلقة للسيسي. ويأتي ذلك فضلاً عن استغلال العلاقات التي تمكن السادات من إقامتها مع عدد من السياسيين الأميركيين في السنوات الماضية وتواجده المتقطع في واشنطن لمباشرة أعماله الخاصة، وتواصله المستمر مع سفارات الدول الغربية في مصر إبان عضويته في مجلس النواب.
وإلى جانب الهدفين الأساسيين من الجولة، وهما الترويج لحدوث انفراجة وتحسين صورة النظام، ذكرت المصادر أن هناك هدفاً ثالثاً حاول الوفد تحقيقه، وهو محو بعض الانطباعات السلبية التي ترتبت على زيارة مدير الاستخبارات العامة المصرية اللواء عباس كامل إلى واشنطن في يونيو/حزيران الماضي، وتكشّفت بنشر عدد من التقارير الصحافية الأميركية التي حملت تصريحات متهكمة على بعض أطروحات كامل خلال لقاءاته بالمسؤولين الأميركيين، والتي كان أبرزها بشأن محمد سلطان، المعارض المقيم حالياً في أميركا، بالمطالبة باستكمال حبسه.
طالب فريق الخارجية الأميركية بالإغلاق النهائي لقضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني
كما واصل الوفد الدعاية لتنسيق دعوة عدد من قيادات ونواب في الحزبين الديمقراطي والجمهوري وعدد من الإعلاميين لزيارة مصر، بما في ذلك نواب سبق وهاجموا السياسات المصرية والعلاقة بين القاهرة وواشنطن في الفترة الماضية، ودعوا إلى بذل المزيد من الضغوط، ليلتقوا خلالها بالسيسي وعدد من المسؤولين التنفيذيين والبرلمانيين، على أن يتضمن البرنامج، على عكس ما حدث مع الوفود السابقة التي زارت مصر للقاء السيسي فقط بين عامي 2015 و2018، فعاليات أخرى مثل زيارة قناة السويس وبعض المواقع الإنشائية والسكنية الجديدة كالعاصمة الإدارية والعلمين الجديدة والأسمرات. وتهدف الجولة التي تجري الدعوة إليها، إلى تقديم صورة كاملة عما يرغب النظام في إيصاله من رسائل، تركز في الأساس على "تحقيقه تقدماً كبيراً على صعيد التنمية والحالة الاقتصادية للمصريين"، وربط هذه الجولة باستراتيجية حقوق الإنسان، والادعاء بأن المشاكل الخاصة بالأوضاع الحقوقية والحريات السياسية لا تمثل الأولوية للغالبية العظمى من المصريين.
وذكرت المصادر أن الوفد تعمّد تذكير المسؤولين خلال اللقاءات بإمكانية إعادة خلق علاقة شراكة بين البلدين لدعم المجالات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، كما كان الوضع في عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، مع التأكيد على استعداد النظام لتوسيع مساحة الشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني لتنفيذ المشاريع المختلفة، بما في ذلك المبادرات الحكومية التي تم إطلاقها بالفعل في مجالات الصحة والمرافق، وبما يشجع واشنطن والجهات المانحة، وعلى رأسها هيئة المعونة، على منح مزيد من الأموال لمصر.
أما عن الشروط التي صرح بها فريق الخارجية الأميركية للاستجابة لهذه المطالبات، فقالت المصادر إنه يمكن تقسيمها إلى فئات عدة، أولها وأهمها لواشنطن، الإغلاق النهائي لقضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني 173 لسنة 2011 والمضي قدماً وبخطى أسرع، في رفع القيود المفروضة على الحقوقيين المتهمين في هذه القضية، مثل المنع من السفر وتجميد الأموال. كما تضم الفئة ذاتها التعامل الإيجابي السريع مع 16 مواطناً مصرياً يحملون الجنسية الأميركية، وهم حالياً ما بين معتقلين وممنوعين من السفر.
واصل الوفد الدعاية لتنسيق دعوة عدد من قيادات ونواب في الحزبين الديمقراطي والجمهوري وعدد من الإعلاميين لزيارة مصر
وعكس تعليق 130 مليون دولار من المعونة الأميركية السنوية لمصر وصرف 170 مليوناً الشهر الماضي، استمرار الضغوط داخل واشنطن لاتخاذ موقف حاسم تجاه نظام السيسي، مع افتعال إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ممارسة تلك الضغوط، التي تبقى ضعيفة ولا تضمن تحسّن الأوضاع على الأرض على الإطلاق. من جهتها، تقتصر الجهود المبذولة من السلطات المصرية على ادعاء تحقيق انفراجة لا أصل لها، وقرارات محدودة غير مؤثرة تتماشى بالتوازي مع تكريس التنكيل بالمعارضين، بما في ذلك المنتمون للقوى والتيارات التي كانت تعتبر قريبة من واشنطن أو تمتلك علاقات جيدة بالحزب الديمقراطي وشخصيات نافذة في إدارة بايدن.
كما يتيح هذا التقسيم للسيسي استمرار هذه الادعاءات، وتقديم هذه الخطوات الصغيرة الدعائية، بل وتسمح للسلطات بممارسة المزيد من القمع. فلا يخفى على مراقب تزامن إطلاق استراتيجية حقوق الإنسان وصرف معظم مبلغ المعونة المعلق على هذا الملف، مع إجراءات انتقامية ضد المعارضين، مثل رئيس حزب "مصر القوية" عبد المنعم أبو الفتوح الذي أحيل إلى المحاكمة الجنائية أخيراً، والباحث باتريك جورج الذي أحيل إلى محكمة أمن الدولة طوارئ بعد عام وثمانية أشهر من الحبس الاحتياطي، والناشط السياسي علاء عبد الفتاح الذي يعاني من تدوير مستمر بين القضايا ومن قمع داخل السجن يعرّض حياته للخطر، بحسب محاميه وذويه، والناشط الحقوقي محمد الباقر الذي تخطت فترة اعتقاله عامين متواصلين. ويأتي ذلك بالإضافة إلى استمرار إحالة المعتقلات والمعتقلين من جماعة الإخوان إلى محاكمات جنائية باتهامات ملفقة، كما حدث أخيراً مع المحامية هدى عبد المنعم التي لم ترتكب جرماً، إلا محاولتها مساعدة ذوي المعتقلين.