واشنطن من التضخم إلى الركود: محاربة السيئ بالأسوأ؟

17 يونيو 2022
رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول (Getty)
+ الخط -

تشير الأرقام وتقديرات الخبراء إلى أن الولايات المتحدة الأميركية تتجه نحو ركود اقتصادي طويل كممر إجباري لمحاربة التضخم المستعصي، أو على الأقل لضبطه وكبح آثاره المتشعبة، ومنها السياسية التي قد تكون الأخطر في الوضع الأميركي الراهن.

وليس في السوابق بديل عن هذا العلاج. والمشكلة بالنسبة لرئاسة جو بايدن المتعثرة والمطوقة بالتحديات أن نتائج هذا العلاج غير مضمونة قبل مرور سنوات موجعة، تزيد أو تنقص حسب الظروف.

والأكثر كلفة وإرباكا لها أن الرئيس مسؤول عن جزء من مسببات هذه الأزمة، سواء من ناحية الخطأ في الخيار والقرار، أو من ناحية الاستدراك المتأخر للخطأ في الحسابات.

قبل أقل من سنة كانت توقعات الإدارة أن احتمالات التضخم ضئيلة، وفي كل حال هي باقية في حدودها الدنيا، وبالتالي لن تكون أكثر من مسألة "عابرة"، لا تأثير لها على الاقتصاد الذي بدأ باستعادة عافيته وبقوة بعد التخلص من قيود كورونا.

لكن التشخيص كان في غير محله كما تبيّن. خلال أشهر ارتفع إلى حيث هو الآن 8.5%، ومرشح للزيادة، وذلك لأول مرة منذ أربعين سنة. فكان أن اضطر "الاحتياطي الفيدرالي" (البنك المركزي) قبل يومين، لرفع سعر الفائدة بنسبة 0،75%، وذلك لأول مرة أيضا منذ 1994.

البنك الموكولة إليه مهمة ترويض التضخم، إضافة إلى العمل على تأمين الاستقرار في الأسعار، وضبط البطالة عند أدنى حدودها، لجأ إلى خطوة الفائدة بغرض تحقيق قدر من الانكماش في الاستثمار– نظرا لارتفاع كلفة الاقتراض– وكذلك في الإنفاق، وبما يؤدي إلى انخفاض الطلب وتوازنه مع العرض، وبالتالي هبوط الأسعار، والتضخم. يعني أنه لجأ إلى إدخال الاقتصاد في حالة الركود لإطفاء نار التضخم.

وليست هي المرة الأولى. في سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي، قفز التضخم إلى 12% وأكثر، وجرت الاستعانة برفع سعر الفائدة التي وصلت إلى 20%، وتسبب بركود طال من بداية السبعينيات إلى الثمانينيات، قبل أن يتراجع منسوب التضخم وتعود الأمور إلى مجراها.

بعد 40 سنة يتكرر السيناريو، ولو بصورة أكثر تعقيدا، وربما أكبر كلفة وخطرا هذه المرة. الآن دخلت تداعيات كورونا على الخط، وأدت إلى نوع من الاختناق في خطوط التوريد، مما ساهم في فوران الأسعار. كذلك دخلت حرب أوكرانيا وما تسببت به من نقص في إمدادات الطاقة الروسية، وبما زاد من اشتعال الأسعار، واستطرادا التضخم. دخول السياسي بالاقتصادي، إضافة إلى كونية الأزمة الاقتصادية، فاقم من المشكلة.

وثمة من وضعه، أي الركود، في منزلة "التسونامي"، بتعبير جامي ديمون، رئيس مصرف ب. ج. مورغن الأكبر في الولايات المتحدة.

وذهب أحد مستثمري وول ستريت، وهو مايكل نوفوغراتس، إلى التحذير من حصول "انهيار".

التقديرات تتراوح بين القاتمة والمبالغ فيها. لكن لا أحد يستهين بالوضع وتداعياته المفتوحة. وحده الرئيس بايدن مال بين التفاؤل وتهوين الأمور على أساس أن الركود مستبعد، ومثله وزيرة المالية جانيت يالين.

يحاول بايدن رسم صورة واعدة وصل في تحسينها إلى حد الزعم بأن معدل التضخم في أميركا "هو الأقل" بين الدول الصناعية الغنية، وهذا غير صحيح؛ فألمانيا ما زال معدله فيها أقل من 8%، وهكذا الهند وإيطاليا والباقون بين 5 و6%.

من البداية جرى تحذير الرئيس جو بايدن من مشروع التحفيز الذي سارع فور مجيئه إلى تمريره بقيمة 1، 9 تريليونات دولار كمساعدة للأميركيين، لأنه ينطوي على خطر استقدام التضخم، لكنه أصرّ. وكان قد سبقه قبل أشهر مشروع مماثل للتغلب على ذيول الجائحة، وبما أدى إلى توفر فائض هائل من السيولة في السوق مقابل شح في العرض، فكانت النتيجة ارتفاع الأسعار. زاد الطين بلّة أن البنك المركزي تأخر في الاستدراك، ومانع في رفع سعر الفائدة من باب أن ذلك يؤذي زخم الاقتصاد المتعافي بعد كورونا. تمسك بنظرية التضخم العابر التي ثبت خطؤها، وبالنهاية اضطر إلى رفع السعر والاعتراف بأن المزيد من هذه الخطوة على الطريق، وبما سيؤدي حكما إلى تسريع الركود حسب العارفين والمتابعين للموضوع.

المشكلة نشأت كنتيجة لمزيج من سوء التقدير والظروف. بايدن لم يخلقها، تواطأت عليه كورونا وأوكرانيا، لكنه ساهم في مفاقمتها. يشاركه في ذلك البنك المركزي حسب معظم القراءات، وهو المستقل في قراراته وفي رسم السياسة النقدية للولايات المتحدة.

الرئيس تسرّع والبنك تباطأ، والخلاصة أن الحالة مفتوحة على انحسار اقتصادي من دون التخلص كليا من التضخم المتوقع أن يبقى في "حدود 3% بعد المعالجة ولفترة تزيد عن خمس سنوات"، وفق ستيف راتنر، أحد كبار خبراء وول ستريت والمسؤول السابق في وزارة المالية.

المساهمون