بخطابٍ لم يختلف كثيراً عن سابقاته، ردت الإدارة الأميركية على مجزرة نابلس (من دون أن تسميها كما في كل مرة) بنفس المفردات والجمل والعبارات السابقة، في تعقيبٍ بدا وكأنه شريط محفوظ في خزائن البيت الأبيض، يُبث وقت الحاجة إليه فقط.
تعتمد الإدارة الأميركية هذا النمط من الردود منذ زمنٍ بعيد، وهو شكلٌ متوارثٌ بين الإدارات المتعاقبة، حتى باتت عباراته مملة لكثرة ما ترددت.
يبدأ الخطاب دائماً بالتعبير عن "القلق العميق"، لاحقةً إياها بنشرة من الوعظ وإسداء النصائح، على غرار: "على الجانبين العمل لتحسين الوضع الأمني" أو حثّ "الطرفين على الامتناع عن التصعيد"، وكذا مطالبتهما بضرورة "اتخاذ خطوات تحول دون مفاقمة التوتر"، أو حتى عبارة "العمل معاً على وضع الترتيبات اللازمة".
ودائماً ما تجرى هذه المخاطبة بصيغة ثنائية، بما يوحي ضمناً بمساواة المجرم مع الضحية، المحتل والواقع تحت الاحتلال، وفي حالات أخرى وعندما يجرى تذكير الخارجية بأن إسرائيل هي الطرف البادئ في العملية التي أسفرت عن سفك الدماء، ترد بأنها "تتعرض لتهديدات أمنية ولها الحق في الدفاع عن نفسها"، وربما قد تشير بشكلٍ خجول إلى أن إسرائيل "لم تراعِ سلامة المدنيين"، إلا أنه وفي كل الحالات، دائماً هنالك عذر جاهز، تماماً كما حصل بعد استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة، إذ برِّئ الجندي الذي أطلق الرصاص عليها "لعدم وجود النية الإجرامية لديه".
بعد الفقرات السابقة من الوعظ وإسداء النصائح تارة، والتبرير لإسرائيل تارة أخرى، يشدّد الخطاب كما العادة على "حق كلا الطرفين بالتمتع وعلى قدم المساواة بالأمن والحرية والازدهار والكرامة"، وهي محاولة لإرضاء الفلسطينيين نسبياً، على الأقل على المستوى الخطابي، من خلال الاعتراف بأن لهم بعض الحقوق، حتى وإن كانت على الورق، أما ترجمتها على أرض الواقع، فهذه مسألة معقدة، تحتاج إلى الحل السحري، وهو "نضوج ظروف حل الدولتين"، وبذلك تبقى حقوق الفلسطينيين مؤجلة، إلى أمدٍ بعيد، خصوصاً أن الإدارة الأميركية نفسها لا تُبدي خطوات جدية في سبيل تحقيق هذا الحل، مشددةً على أن هذا مرهون بـ"مفاوضات" يجريها الجانب الفلسطيني مع إسرائيل، وتكون المدخل "الوحيد لحصولهم على الدولة التي تؤمن له سيادته واستقلاله وحريته، وتعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل"، متجاهلةً بذلك كل المفاوضات التي حصلت في العقود الثلاثة الماضية، والتي لم تسعَ واشنطن حتى لو بمحاولة واحدة إلى إنقاذها.
صحيح أن إدارة بايدن تعني ما تقوله عن أن حل الدولتين هو المخرج المفضّل للصراع، لكن قبولها به يشترط ضمناً قبول إسرائيل أولاً، وهذا ما يفسر إرجاءه الدائم إلى هذا الحل نحو المستقبل، أي إلى وقتٍ تقبل فيه إسرائيل ذلك الحل.
على سبيل المثال، فإن إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، بعد أن أقفلها الرئيس السابق دونالد ترامب، خطوة لا يريد بايدن أن يتخذها لأن إسرائيل رفضت ذلك، وبلغة لا تخلو من التحدي في بعض الأحيان. تماماً كما يحصل مع ملف المستوطنات داخل الضفة الغربية، وكذا موجة العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.
يبدو أن الإدارة الأميركية تشعر بالضيق والإحراج من ممارسات حكومة نتنياهو الجديدة، إذ إنها لم تتراجع عن الاستيطان، ولم توقف العنف الإسرائيلي المتصاعد على جنين ونابلس، مع ذلك، فإن المتحدث في الخارجية قال إنه لا يعرف شيئاً عن مدى التزام إسرائيل بوقف النشاط الاستيطاني، لأن الإدارة "لم تكن طرفاً في الترتيبات"، مقراً في الوقت ذاته بأن مسألة الاستيطان تشكل "عقبة جغرافية أمام تحقيق حل الدولتين"، الذي تقول الإدارة إنها حريصة عليه، لكنها بالرغم من هذا، لا تذهب إلى أبعد من ذلك.
يقتصر دور الإدارة الأميركية في الفترة الأخيرة على "العمل مع شركائنا الإسرائيليين والفلسطينيين والآخرين في المنطقة (...) لتشجيع ومساعدة الطرفين على اتخاذ الخطوات اللازمة"، كما قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس في رده على سؤال "العربي الجديد" حول ما إذا كانت واشنطن تسعى إلى تهديد إسرائيل بـ"إعادة النظر" في العلاقات معها، لحملها على التجاوب مع سياستها تجاه الاستيطان وحل الدولتين.
وهذه ورقة لعبتها إدارات سابقة في زمن الرئيسين جيمي كارتر وجيرالد فورد، ونجحتا في زحزحة إسرائيل عن تعنتها بعد أن لمست إسرائيل الجدية في هذا التحذير، لهذا، فإنه من الواضح أن إدارة بايدن غير معنية أصلاً بالضغط على إسرائيل تجاه هذا الحل.