منذ البداية، احتفظت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بموقف رمادي من تهديد إسرائيل باجتياح غزة. اهتزاز الثقة بالجاهزية العسكرية الإسرائيلية بعد زلزال "طوفان الأقصى" جعل البيت الأبيض "ينصح" بتأجيل الاجتياح، أو على الأقل بخفض سقف أهدافه إلى "حدود الممكن"، وذلك في ضوء "صعوبة" المهمة وكلفتها العالية المتوقعة، فضلا عن مانع الرهائن. لذلك بقيت إشارة المرور التي أعطاها بايدن متقلّبة بين الأخضر والبرتقالي. وكذلك كان موقف الإدارة الأميركية من "الهدنة الإنسانية" كاحتمال مؤجل.
مع بدء التوغل أول من أمس الخميس، ضربت الإدارة الرقم القياسي بهذه السياسة المتلونة، خاصة في ما يتعلق بالهدنة، فبعد أقل من 24 ساعة من بدء العمليات التي دعت إليها، بعد أن كانت قد أسقطتها بالفيتو قبل يومين في مجلس الأمن، عادت بعد ساعات لتربط الهدنة بعملية الإفراج عن الرهائن، وذلك على لسان جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، في مؤتمر صحافي بعد ظهر أمس الجمعة. وقبل مرور 3 ساعات على تصريحه، تراجع البيت الأبيض داعيا إلى "هدنة إنسانية".
من التفسيرات أن هذا التذبذب لا يعدو كونه ترجمة لعملية توزيع أدوار، بحيث تتولى واشنطن الدعوة إلى الهدنة لتنفيس الضجة والاعتراضات على سقوط المزيد من الضحايا المدنيين وخاصة الأطفال، الذين تحصدهم ماكينة الحرب الإسرائيلية. وهذه حالة لم تعد الإدارة قادرة على تغطيتها في وجه الضغوط الدولية وحتى المحلية التي تغيّر مزاجها بعد المشاهد التي تعرضها الشاشة الصغيرة عن مآسي المدنيين الأبرياء، الذي تطاردهم آلة الموت وانقطعت عنهم سبل البقاء على قيد الحياة.
وازداد حرج الإدارة عندما بدا في الأيام الأخيرة أن إسرائيل لم تلتزم ولا هي ألزمتها بالتقيد بقانون الحروب ولا بالقانون الدولي، كما وعد البيت الأبيض، الذي عمل من استهداف المدنيين في أوكرانيا قضية ضد روسيا، في حين وضعت إدارته استهداف المدنيين الفلسطينيين في خانة الانتهاك القانوني الذي يحتاج إلى عملية "تقييم" وتأكيد رسمي، حسب ما ورد على لسان المتحدث في الخارجية الخميس.
وفي تفسير آخر، أن طلب الهدنة قد يكون مخرجا لوقف عملية عسكرية متعثرة أو باهظة الكلفة، على أن يجرى تمديدها لو حصلت بحيث تتحول بالنهاية إلى صيغة تؤدي إلى فك الاشتباك. لكن مثل هذا الاحتمال مستبعد ما لم تطرأ، أو تكون قد طرأت، مستجدات ميدانية غير محسوبة.
ما يخشاه بعض المتخوفين أن يكون قرار "توسيع العمليات البرية" قد اتخذ تحت ضغط الوقت، بعد أن طال التلويح بالاجتياح. كما جاء في ظل خلافات بين الحكومة والعسكريين كما في صفوفهما. وما يعزز المخاوف أن 49% من الإسرائيليين "مع تأجيل" العملية البرية.
الإدارة الأميركية، التي طالما تحدثت عن التأجيل، تقول إنها "تباحثت" بشأن العملية مع إسرائيل "وما زلنا نتباحث معها حول مداها"، حسب جون كيربي، مضيفا أنه لن يدخل في التفاصيل. يبدو من كلامه واحد من اثنين: إما أن العملية تجريبية خط الرجعة فيها مفتوح وربما لهذا السبب وضعت تحت عنوان "توسيع" وليس اجتياح. الاحتمال الثاني هو أن التوغل مفتوح باتجاه الحسم بصرف النظر عن مصير الرهائن والمدى الزمني.
وفي سياق هذا الاحتمال، جرى التوقف أمام ما قاله وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان في مقابلة، الجمعة، في نيويورك، مع تلفزيون بلومبيرغ، فقد تحدث بلغة الإنذار، وبشكل واضح أكثر من أي وقت مضى، عن فتح جبهات أخرى ضد الولايات المتحدة إذا استمر القتل في غزة".
وأضاف أن الوضع بلغ نقطة الانفجار، حيث باتت كافة الاحتمالات واردة، ملوحا بزج قوات إيرانية "لم نرسلها بعد إلى سورية، أو إلى أي مكان آخر في المنطقة ".
وكانت طهران قد وصلت إلى قناعة بأن الوضع في غزة سائر نحو المزيد من التفجير والتصعيد. مع ذلك، ما زال الترجيح السائد في واشنطن أن الأمور لا تبدو سائرة في طريق الخروج عن السيطرة، وأن ما يحصل خارج غزة لم يتجاوز حدود الالتهابات المحدودة غرضها التذكير بالقوة والقوة المضادة.
معظم القراءات والتحليلات تنحو في هذا الاتجاه. ومنها ما يشدد على ضرورة العودة إلى معالجة الأصل من خلال حل الدولتين، والإدارة تردد هذا الخطاب، لكن بالكلام فقط. الحرب الإقليمية هي آخر ما يريده بايدن في عام انتخابي. بيد أنه يواجه ضغوط الصقور في الكونغرس وغيره، الذين يدفعون بخيار الحسم العسكري ضد "حماس" ورفض القبول بأي هدنة أو وقف للنار"، حسب دنيس روس، المبعوث الخاص سابقا، وأمثاله مثل جيرومي باش مدير عام وزارة الدفاع سابقاً، وغيرهما.
المؤكد أن الأزمة بعد ثلاثة أسابيع على "طوفان الأقصى" دخلت في طور جديد، يقف فيه "الكل على حافة الهاوية بانتظار القادم الأسوأ" وحتى إشعار آخر، بتعبير الجنرال المتقاعد باري ماكفري.