كان للتطورات الروسية المذهلة، التي تسارعت في الساعات الأربع والعشرين الأخيرة، في واشنطن وقع المفاجأة "السارة" والمربكة في آن واحد.
فهي أثارت الارتياح من جهة لأنها، وفق معظم القراءات الأميركية، زعزعت سلطة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وأدت إلى هبوط حجمه وهالته الدولية، ولو بقي سيّد الكرملين، وفي ذات الوقت طرحت الكثير من الأسئلة عما كشفت من عطب ومواطن خلل في روسيا، البلد النووي والمتورط في حرب زاد هذا الصراع من سوداوية احتمالاتها، وانعكس ذلك في المتابعات والمداولات السياسية والإعلامية التي احتكرها الحدث على مدار الساعة في الولايات المتحدة، وما زال.
وجاء اعتراف بوتين بخطورة التحرك ليطرح التساؤل عما إذا كان يفغيني بريغوجين، زعيم فاغنر، وحيداً في هذه المواجهة، أم أنه يحظى بتأييد بعض "كبار العسكريين" الناقمين على الحرب وقرارها؟
بحسب بعض التقارير، لمس زعيم فاغنر استياء الكثير من العسكريين الروس من الحرب، من طريق "المخالطة الميدانية لمقاتليه مع القوات الروسية في جبهات القتال"، وبنى على هذا الاستياء، لتوظيفه في حركته الانقلابية، بل ربما كان قد "نسّق مسبقاً مع قيادات هذه القوات" للقيام بتمرده على الكرملين.
ومن المستبعد أن يزجّ بريغوجين بنفسه في محاولة من هذا النوع بالاعتماد على قواته وحدها، التي لا يزيد عددها على 25 ألف مقاتل، في مقابل جيش دولة بحجم روسيا، ومجهز بأنواع الأسلحة كافة، إلا إذا كانت لديه طمأنات بالتحاق بعض القوات به.
وثمة من رأى أن إعلانه سيطرة قواته على المنشآت العسكرية في مدينتين روسيتين، كان بمثابة دعوة لهذه القوات لإعلان تمردها هي الأخرى والانضمام إلى "زحفه إلى موسكو" لإزاحة بوتين والاستيلاء على الكرملين.
ويبدو أن العملية كانت جدّية إلى الحدّ الذي حمل بوتين على التراجع المحرج عن تهديده بمحاكمة بريغوجين كـ"خائن" لروسيا وشعبها وإعلان عدم ملاحقته، واستعان بوتين بحليفه رئيس بيلاروسيا، الكسندر لوكاشينكو، للتدخل واستضافة بريغوجين لتبريد الوضع في روسيا، وربما لاحتواء حالة التأييد لهذا الأخير في بعض المناطق الروسية. وتردد أن ترحيل بريغوجين إلى بيلاروسيا جاء بنتيجة صفقة تقضي بإبعاده مقابل استقالة وزير الدفاع الروسي ورئيس هيئة أركان الجيش.
وفي طوفان الروايات والتحليلات، يسود الاعتقاد أن الضرر وقع، والأزمة لم تنته بعد، فبوتين اهتز وضعه وصار على الأرجح غير قابل للترميم، والتحرك ضده قد يكون "بروفة" لتطورات أكبر وأعمق. فحدوث أزمة بهذه الخطورة في بلد كانت شؤونه الداخلية دوماً محاطة بالكتمان ولا تتسلل إلى خارج الكرملين ليس أمراً عادياً.
بل إن خروجها إلى العلن، في لحظة حرب متعثرة ومكلفة، أمر ليس فقط غير اعتيادي، بل على الأرجح غير عابر. بوتين حكم 23 سنة تحت عنوان "الزعيم القوي"، وانكسار هذه الصورة فجأة له تداعيات كبيرة، أقلها أن موسكو دخلت في طور جديد قد يشكل نقطة تحول في حرب أوكرانيا، إما باتجاه الحل، وإما التصعيد الخطير. وكما في تركيبة النظام الروسي، كله يتوقف على ما سيرسو عليه الصراع، خصوصاً إذا كان ما تردد عن وجود تململ في القوات المسلحة، وعن تناغم بعضها مع حركة فاغنر صحيحاً.
ومع أن الصورة ما زالت غير مكتملة بانتظار المزيد من الوضوح المتوقع في غضون الأيام القيلة القادمة، تتعاطى واشنطن مع ما حصل وكأنه "هدية"، أو "مشروع هدية" جيوسياسية لها، حيث يسود الانطباع بأن بوتين خرج من العملية كـ"خاسر ومكشوف".
البيت الأبيض مع فريقه للأمن القومي بقي في حالة انعقاد لمتابعة هذه التطورات التي احتكرت الاهتمامات خلال عطلة نهاية الأسبوع، مع التركيز على آثارها المحتملة على حرب أوكرانيا وعلى حلف "الناتو"، المقرر أن يعقد اجتماعه السنوي بعد أيام في ليتوانيا على الحدود الروسية.
في المئة سنة الماضية، هزت أحداث وتطورات روسيا العالم مرتين: مع مجيء السوفييت في 1917، ومع انهياره في 1991. فهل تهزه في 2023؟