وثائق جديدة تكشف ألغاز الترسانة الكيميائية للأسد

20 أكتوبر 2020
الكشف عن تقرير "الغوص في أسرار البرنامج الكيميائي السوري (عبد الله كوسكون/الأناضول)
+ الخط -

قدمت منظمتان غير حكوميتين إلى هيئات تحقيق دولية تقريراً يصف "بدقة غير مسبوقة" طريقة تشغيل البرنامج الكيميائي السوري، وقيام النظام بإخفاء الأدلة عن استخدامه السلاح الكيميائي الذي تسبب بمقتل مئات المدنيين في هجمات عديدة.

وتم الكشف عن تقرير "الغوص في أسرار البرنامج الكيميائي السوري" حصرياً في وقت متزامن، اليوم الثلاثاء، بين صحف "لوموند" الفرنسية، و"واشنطن بوست" الأميركية، و"فايننشال تايمز" البريطانية، و"زود دويتشه تسايتونج" الألمانية، التي حصلت على نسخ من التقرير المؤلف من 90 صفحة، أعدته "مبادرة العدالة للمجتمع المفتوح" الأميركية والأرشيف السوري، وتم تقديمه رسمياً أمس الاثنين إلى الهيئات الدولية.

ويكشف التقرير كيف تلاعبت السلطات في دمشق بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، بالاستناد إلى تحليل المصادر المفتوحة، واستخدام البيانات المستمدة من سجلات الأمم المتحدة، وقبل كل شيء، إلى شهادات حوالي خمسين مسؤولاً سورياً انشقوا في السنوات الأخيرة، شغلوا مناصب عديدة في "مركز الدراسات والبحوث العلمية"، الوكالة الحكومية المسؤولة عن تطوير الأسلحة السورية التقليدية وغير التقليدية. وأشار التقرير إلى أن "شهاداتهم تعطي قيمة خاصة للوثائق".

وفق الشهادات، قام النظام السوري بتضليل محققي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والحفاظ على القدرة الهجومية في المجال الكيميائي، عن طريق نقل جزء من مخزون الأسلحة والمواد الفتاكة إلى قواعد الحرس الجمهوري ( وحدة النخبة في النظام)، فيما قام النظام أيضاً بملاحقة وسجن عدد من الموظفين الذين كانوا شهوداً على هجماته الكيميائية، وفي بعض الحالات، التخلص من الموظفين المشتبه فيهم، كما قام بإنشاء قناة سرية لاستيراد المنتجات السامة مثل غاز السارين.

ومادة السارين كانت المركب الأساسي الذي استخدم في هجوم آب/أغسطس 2013 ضد الغوطة الشرقية، ما أدى إلى مقتل 1200 من سكانها خنقاً، وفق تقارير حقوقية.

بعد الهجوم، كُلفت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بتدمير مخزون سورية ونظام إنتاجها من الأسلحة الكيميائية. كان من المفترض أن تكون المنظمة قد أنجزت مهمتها على مرحلتين: في عام 2014 لترسانة المواد الكيميائية المعروفة بالنسبة للمنظمة، وفي عام 2018 لمواقع الإنتاج الـ27 المذكورة في البيان الذي قدمته دمشق إلى منظمة حظر الأسلحة. وأعلنت الولايات المتحدة وروسيا أن "المهمة أنجزت".

لكن في دوائر التحقيق الغربية الأخرى، وحتى داخل المنظمة التي تتخذ من لاهاي مقراً لها، اشتبه الكثيرون في أن دمشق تعمدت التقليل من أهمية ترسانتها. في الواقع، استمرت الهجمات الكيميائية على المناطق التي يسيطر عليها المقاتلون المناهضون للرئيس السوري بشار الأسد بعد عام 2013، ولا سيما في خان شيخون؛ ففي إبريل/نيسان 2017 قتل 200 شخص اختناقاً بغاز السارين، الذي كان من المفترض أنه غير متوفر بعد الآن لدى النظام.

وبعد ثلاث سنوات من العمل، تم إرسال التقرير إلى خمس مؤسسات مختلفة: فريق التحقيق وتحديد الهوية التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية؛ الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، وهي هيكل منبثق من الأمم المتحدة يجمع الأدلة على الجرائم المرتكبة في سورية؛ وزارة العدل الأميركية؛ مكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي)، والمدعي العام الاتحادي الألماني، الذي تلقى مؤخرًا شكوى ضد النظام السوري على صلة بالهجمات في الغوطة وخان شيخون.

إخفاء الأدلة

أهم معلومة في التقرير هي تحليل سبق صحافي من الموقع الإخباري السوري "زمان الوصل"، والذي لم يلاحظه أحد في الصحافة الغربية وقت نشره في تشرين الثاني/نوفمبر 2017.

في ليلة 25 سبتمبر/أيلول 2013، قبل خمسة أيام من وصول محققي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى سورية، نقلت احتياطيات الأسلحة الكيميائية في "معهد 1000"، أحد الأقسام الرئيسية في "مركز البحوث العلمية"، إلى مستودعات قاعدة اللواء 105 للحرس الجمهوري الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من العاصمة دمشق.

يستند هذا التحليل إلى وثيقة نشرها "زمان الوصل" قاطعتها "لوموند" مع ضابط سابق في المخابرات السورية أكد صدقيتها، وهي عبارة عن رسالة من مسؤول "معهد 1000" بتاريخ 19 سبتمبر/أيلول 2013 يأمر فيها رئيس الأمن في "معهد البحوث العلمية" بتنسيق نقل الأسلحة.

ووفقاً للضباط المنشقين الذين سُئلوا عن هذه الوثيقة، فقد نفذ حوالي 50 جندياً عمليات نقل المخزون والأسلحة، ليصبح غير قابل للكشف.

وبحسب التقرير، فإن البرنامج الكيميائي الذي تم تطويره في معهد "البحوث العلمية" بمساعدة العديد من الدول الأجنبية، بما في ذلك فرنسا وألمانيا، بدأ في منتصف الثمانينيات تحت إشراف جهاز المخابرات الجوية، الفرع الأكثر رعباً من بين أجهزة الأمن السورية.

ويحتوي التقرير على صور تقريبية لشكل المعهد، تم رسمها وفق شهادات المسؤولين المنشقين، وبعضهم عمل في المركز، تبيّن أنه عبارة عن متاهة من الفروع والمعاهد والوحدات الملحقة به، في دلالة على مدى حرص النظام على تقسيم هذا المكان لمنع اختراقه أو تسريب وثائق منه إلى أجهزة استخبارات أجنبية.

تكشف شهادات المنشقين عن معهد "البحوث العلمية" في التقرير عن مواقع جديدة لم تكن معروفة من قبل

 

وتكشف شهادات المنشقين عن معهد "البحوث العلمية" في التقرير عن مواقع جديدة لم تكن معروفة من قبل. هذا هو الحال بشكل خاص مع ورشتين لإنتاج البراميل المتفجرة المملوءة بالكلور: إحداهما تحمل علامة 410 لـ"معهد 2000"، تقع في جمرايا، والأخرى مصنّفة 797 من "معهد 4000" تقع بالقرب من مصياف في محافظة حماة.

اكتشاف آخر: تم إغلاق موقع إنتاج القنابل الثنائية، وهو سلاح لا تصبح مكوناته الكيميائية سامة إلا عند دمجها (نوع M4000)، بالقرب من حلب، تم إغلاقه في عام 1998. والأسلحة التي تم إطلاقها من هذه الوحدات كانت ستستخدم في هجوم بغاز السارين والكلور على بلدة اللطامنة في آذار / مارس 2017.

وبحسب عدد من العاملين السابقين في المعهد، فإن القصف الإسرائيلي في نيسان/إبريل 2018 على البنية التحتية لـ"معهد 4000" طاول الأبنية الإدارية فقط. ووفقاً لهذه المصادر نفسها، فشل أيضاً هجوم جوي آخر على "مشروع 99"، وهو مصنع إنشاء صواريخ سكود، مخبأ في جبل تقسيس بين حمص وحماة، بعد أن نقل النظام المعدات قبل فترة وجيزة إلى مدينة طرطوس الساحلية.

التخلص من الأسلحة والشهود

بحسب منشق في عام 2012، أسقط الطيران الحربي السوري قنبلتين تزنان طناً على مبنى في السفيرة بالقرب من حلب، كانتا عبارة عن مخزن صواريخ كورنيت المضادة للدبابات. خشيت هيئة الأركان العامة السورية من أن يستولي المقاتلون على هذه الأسلحة، فدمرت المكان. وكان حزب الله اللبناني قد استخدم فعلاً هذه الصواريخ خلال المواجهة مع الجيش الإسرائيلي عام 2006، وألحق أضراراً كبيرة بالدبابات الإسرائيلية.

ويضمّن التقرير هذه الشهادة من الضابط المنشق دليلا على قيام النظام السوري بالتخلص من منشآته بنفسه، إذا ما كانت في خطر.

وبحسب أحد المنشقين، ساهم الإشراف على الموظفين في معهد "البحوث العلمية" بوقف انشقاق الموظفين ونشر المعلومات السرية، حيث طُبّقت إجراءات أمنية صارمة. ويشرف جنرالان، بسام الحسن، عين بشار الأسد داخل "معهد البحوث"، ويوسف عجيب، مدير أمن المركز، على تولي أمر مطاردة المسؤولين أو الموظفين الذين تثار حولهم الشكوك،  والتخلص منهم في بعض الأحيان.

وقال شاهد آخر في التقرير إن "موظفين كثر قتلوا أو ماتوا في السجن أو اختفوا". وبحسب التقرير، فقد تم بالفعل في عام 2010 إعدام مهندس المركز أيمن الهبلي من قبل النظام بتهمة تقديمه معلومات إلى إسرائيل.

المصادر التي تم استجوابها من قبل المحققين تفصّل ثلاث حالات أخرى من عمليات التخلص من الشهود داخل المعهد منذ عام 2011، ومن بين أولئك المدير السابق لـ"معهد 4000" محمود إبراهيم الذي قتل في عام 2015، إما بسبب الشكوك حول ولائه، أو لأنه عارض النفوذ الإيراني المتزايد على المركز، بحسب الشهادات.

وكان أحدث ما تم الكشف عنه في التقرير يتعلق بآليات تزويد معهد "البحوث العلمية" بالمواد الكيميائية؛ فمن خلال البحث في قاعدة بيانات "كومتريد"، وهو سجل تجاري ضخم تحتفظ به شعبة الإحصاءات في الأمم المتحدة، اكتشف المحققون أنه بين عامي 2014 و2018، تم تصدير 69 فئة من المنتجات التي يحتمل أن تخضع للعقوبات في سورية من 39 دولة مختلفة، بما في ذلك 15 أوروبية.

ويحدد التقرير شركات مقرها بلجيكا وألمانيا وهولندا وسويسرا تواجه عقوبات قانونية لانتهاكها قيود الاستيراد المفروضة على سورية، كانت قد أرسلت شحنات من مركب "الأيزوبروبانول" الذي استخدمه النظام في صنع السارين.

ويختم التقرير بالقول إن النظام السوري، برغم اكتشاف طرق حصوله على بعض المركبات العضوية التي تستخدم في تصنيع غاز السارين، إلا أنه لتصنيع هذا الغاز السام فإن الأمر يتطلب مركبا آخر هو "ميثيل فوسفونيل دفلورايد"، وهو مركب فوسفور عضوي يعرف اختصاراً بـ"DF" ومركب "هيكسامين"، وهذا الأخير يقوم النظام بإنتاجه محلياً، لكن في الوقت الحالي لا يعرف أحد كيف يحصل النظام على مركّب "DF" ولا مكان تخزينه. هذا هو أحد الألغاز، التي لا تزال مجهولة، عن معهد "البحوث العلمية"، مخبر جرائم الحرب السوري.