لا تتوقف حظوظ وزير المالية البريطاني المستقيل ريشي سوناك عن التراجع، يوماً بعد يوم، في السباق مع منافسته وزيرة الخارجية ليز تراس على قيادة حزب "المحافظين"، وبالتالي تولي منصب رئاسة الوزراء.
ومما يظهر أن السباق ليس متساوياً بين المرشّحين لخلافة بوريس جونسون في الحزب وفي الحكومة. كما أن الحملة الانتخابية لكلا المرشّحين والوعود والتعهّدات والالتزامات والاختلافات الجذرية كلها أمور ثانوية بالنسبة إلى حزب "المحافظين"، الذي سيقرّر في الرابع من سبتمبر/ أيلول هوية زعيمه الجديد ورئيس الحكومة.
حتى اللحظة، لا تزال تراس متقدّمة على سوناك، وليست الخطط التي تعهّدت بها هي الداعم الفعلي لتقدّمها، بل أكثرية أعضاء الحزب المؤثّرين والبارزين هي من تدفعها إلى الصدارة يوماً بعد يوم. حتى ليخيّل للمتابع أن سوناك قد ينسحب في أي لحظة من هذا السباق، ليس تفادياً للخسارة، بل خشية التعرّض إلى المزيد من "الإهانات" و"الإذلال".
وكان لافتاً الدعم العلني والصريح الذي أطلقه مساء أمس وزير الدفاع بن والاس لصالح تراس، معتبراً أنها "المرشّحة الوحيدة التي تتحلّى بالخبرة المناسبة لقيادة الحزب والحكومة"، ما أعطى حملتها الانتخابية دفعاً إضافياً من الثقة وشكّل صفعة جديدة لسوناك.
وكان والاس من أبرز المرشّحين لدى القواعد الشعبية لحزب "المحافظين" على خلافة جونسون، إلا أنه انسحب من السباق على الرغم من الدعم الكبير الذي يحظى به والشعبية التي كانت ستكفل وصوله إلى "داونينغ ستريت" متغلّباً على أي منافس.
وتشير تكهنات إلى أن والاس انسحب من السباق بسبب نيّته الترشّح لمنصب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في سبتمبر/ أيلول العام المقبل. وتبدو رسالة الدعم التي نشرها والاس في صحيفة "ذا تايمز" مساء البارحة فضفاضة وتحمل الكثير من المعاني، إذ في كل جملة يمدح بها تراس يدين بها أيضاً سوناك من دون أن يذكر اسمه بوضوح.
يقول مثلاً: "تراس أصيلة"، أي أن سوناك ليس أصيلاً! ويبدو أن والاس لا يكترث على الإطلاق بتهم "العنصرية" التي قد تلاحقه كما لاحقت غيره من أعضاء الحزب "غير القادرين على اختيار رئيس حكومة غير أبيض" لرئاسة الحكومة، بحسب رامي رينجر، أكبر متبرّع للمحافظين من رجال الأعمال في بريطانيا، الذي حذّر من "عواقب وخيمة" على سمعة الحزب إذا ما "فشل الأعضاء في اختيار أول رئيس وزراء بريطاني آسيوي" واختاروا بدلاً منه ليز تراس.
ويعتقد والاس أن تراس وحدها القادرة على مواجهة الأزمات الكبيرة التي تعيشها المملكة المتحدة، من الاجتياح الروسي لأوكرانيا إلى جائحة كورونا إلى ارتفاع الأسعار والتضخّم. أيضاً هنا يلمّح إلى أن سوناك غير قادر بالتالي على مواجهة أزمات صعبة كهذه.
وعندما لم يجد والاس في أداء سوناك ما يدينه، راح ينتقده بشدّة لأنه فتح الباب وغادر الحكومة في مرحلة دقيقة للغاية، بينما والاس "لم يكن لديه ترف الخروج احتراماً للدور الذي يقوم به للحفاظ على أمن هذا البلد". ويضيف أن حارس الاقتصاد هو من يقوم بدور المستشار، أي سوناك.
وليس بن والاس كغيره من أعضاء الحزب والحكومة. هو وزير الدفاع في مرحلة تاريخية ومفصلية من الحرب الروسية على أوكرانيا، وهو الذي كانت بريطانيا تحت إدارته وإشرافه للدفاع الأسرع استجابة بين دول أوروبا لدعم كييف. كما أنه الداعم لجونسون والمتسامح مع أخطائه. ولن يكون من المبالغة القول إن والاس منح تراس بدعمه العلني هذا قاعدة أوسع بكثير مما كانت تمتلك البارحة صباحاً فقط. فتح لها الباب على مصراعيه لتدخل إلى "داونينغ ستريت"، هي التي تبدو نسخة محسّنة من جونسون.
هي في الواقع بوريس جونسون، لكن من دون تلك العيوب الشخصية المتعلقة بالافتقار للنزاهة وخرق القانون والاستهتار بالقواعد والكذب ومسرحة الخطاب السياسي إلى حدّ الهزل. تراس هي الاستمرارية بالنسبة للحزب وتحاكي التطلّعات "البسيطة" وغير المعقدة لأعضائه المحافظين: تخفيض الضرائب وفواتير الطاقة، ورفع معدل التأمين الوطني، وسياسة هجومية في ما يتعلق باتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي.
لا يريد الحزب أكثر من ذلك، والأهم أنه لا يريد منافساً لجونسون، بل حليفاً له وامتداداً لسياسته. وتراس بهذا المعنى هي الأفضل فعلاً، والأكثر إخلاصاً من جهة لعملها "الوفي" في ثلاث حكومات ماضية، ومن جهة أخرى لولائها المطلق لزعميهم.
ويبقى السؤال عن توقيت هذا الدعم الكبير الذي قد يكون حاسماً في هذه المنافسة، إذ ما الذي شجّع وزير الدفاع على البوح بدعم مطلق لوزيرة الخارجية الآن تحديداً؟ ربما تريّث والاس حتى البارحة كي لا يعطي الانطباع بأن دعمه لتراس هو دعم مسبق وغير مبني على أداء المتنافسين ووعودهما الانتخابية.
وربما، أيضاً، لم يكن والاس ينوي التعبير عن دعمه بهذه الطريقة العلنية والصاخبة لولا أن الصحافة سرّبت، قبل يومين، معلومات عن نيّة رئيس الوزراء المستقيل بوريس جونسون الترشّح لمنصب أمين عام حلف الناتو في سبتمبر العام المقبل، والدعم الكبير الذي يحظى به من كبار أعضاء الحزب، وأيضاً من نوّاب أوكرانيين بارزين، إضافة إلى الرئيس فولوديمير زيلينكسي. وبالتالي، قد يرغب والاس في تصفية الأجواء أمام عبوره من الحكومة البريطانية إلى حلف الناتو كمنافس أقوى لجونسون. وأيضاً قد يحلو له كسب دعم ليز تراس منذ هذه اللحظة إلى أن تصبح رئيسة للحكومة.