وفاة أمير الكويت صباح الأحمد الصباح: مهندس مجلس التعاون الخليجي وعرّاب الدبلوماسية
توفي اليوم أمير دولة الكويت الخامس عشر، الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، عن عمر ناهز الـ91 عاماً، بعد مسيرة طويلة وحافلة في أروقة الدبلوماسية الكويتية والعربية وقصر السيف (مقر الحكم) في الكويت، هندس خلالها السياسة الكويتية الداخلية والخارجية، محافظاً على دور فاعل للكويت على الساحتين الدولية والعربية، بما في ذلك داخل مجلس التعاون الخليجي الذي يعدّ أحد مهندسيه الرئيسيين. وقد دافع عن بقاء هذا المجلس حتى اللحظة الأخيرة، على قاعدة أنّ الخلاف الخليجي "أوھن قدراتنا وھدّد إنجازاتنا، الأمر الذي يستوجب على الفور السمو فوق خلافاتنا وتعزيز وحدتنا وصلابة موقفنا". وأصبحت الكويت في عهد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح منذ مبايعته أميراً على الكويت في 29 يناير/كانون الثاني 2006 وحتى وفاته اليوم، عاصمة للوساطات السياسية بين الأطراف المتصارعة بفضل سياسته الخارجية التي تقوم على التوازن الاستراتيجي. وشهد عهد صباح الأحمد الجابر الصباح إصلاحات سياسية عدة. كما لم يخل من خلافات حادة بين الحكومة والمعارضة، انتهت باستقالة رئيسين لمجلس الوزراء.
ولد الشيخ صباح الأحمد في قرية الجهراء، شمال الكويت، في 16 يونيو/حزيران 1929. وهو الابن الرابع لأمير دولة الكويت العاشر الشيخ أحمد الجابر المبارك الصباح، ووالدته منيرة السعيد العيار وهي من أسرة كانت تحكم هذه القرية الزراعية التي تقع شمال الكويت، حيث تربى في كنف أخواله حتى بلغ الرابعة من عمره، حينها قرر والده إحضاره إلى العاصمة الكويت عاهداً بتربيته إلى زوجته الأخرى الشيخة بيبي السالم الصباح.
حوّل الأمير الراحل الكويت عاصمةً للوساطات السياسية بين الأطراف المتصارعة
وانتظم صباح الأحمد في المدرسة المباركية، التي تُعدّ أول مدرسة نظامية في تاريخ الكويت، برفقة عدد من شيوخ الأسرة الحاكمة الذين أصبحوا فيما بعد أمراء أو وزراء، مثل الشيخ جابر الأحمد وسعد العبدالله وجابر العلي، قبل أن يرسله والده لتعلم أصول الحكم والإدارة في عدد من الدول العربية والغربية. وهي الطريقة التي كان المستشارون البريطانيون قد نصحوا أمير الكويت آنذاك باتّباعها، لتهيئة جيل جديد من الأسرة الحاكمة يضطلع بأعباء الحكم فيما بعد.
لكن العلامة الفارقة في حياة الشيخ صباح الأحمد السياسية هي تولي الشيخ عبدالله السالم الصباح مقاليد الحكم عام 1950، فقرر الشيخ الذي كان يوصف بالمتنور حينها، إبعاد الجيل القديم من الأسرة الحاكمة وتقديم الجيل الشاب منها لتسلّم مقاليد الأمور استعداداً لاستقلال البلاد عن بريطانيا. وكان صباح الأحمد واحداً من الشيوخ الشباب الذين عُهدت إليهم المناصب الإدارية في ذلك الوقت، فتولى في عام 1954 عضوية "اللجنة التنفيذية العليا" والتي كانت بمثابة نواة لمجلس الوزراء، ثم تولى في العام الذي يليه مسؤولية رئاسة دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل ودائرة المطبوعات والنشر.
كما عُيّن عضواً في الهيئة التنظيمية للمجلس الأعلى المساعد للحاكم، وهو المجلس الذي كان يدير شؤون البلاد في الخمسينيات معاوناً أمير الكويت آنذاك، وأصبح رئيساً لدائرة المطبوعات والنشر والتي أنتجت تحت إدارته أشهر مجلة عربية ثقافية في تاريخ الكويت، وهي مجلة "العربي" واصفاً إياها بأنها "هدية الكويت للعرب".
أنشأت الكويت، خلال توليه وزارة الخارجية، لجنة لمساعدة دول الخليج العربي واليمن
وبعد استقلال الكويت عن بريطانيا وإنهاء اتفاقية الحماية البريطانية عام 1961 وتشكيل أول مجلس تأسيسي يضطلع بمهام وضع دستور دولة الكويت، عيّن الشيخ صباح الأحمد في أول منصب وزاري له عام 1962 وهو منصب وزير "الإرشاد والأنباء" والتي تسمى اليوم وزارة الإعلام، ولم يستمر في منصبه أكثر من عام واحد، ليصبح وزيراً للخارجية في عام 1963 خلفاً للشيخ صباح السالم الصباح الذي أصبح رئيساً للوزراء وولياً للعهد. واستمر في منصب وزارة الخارجية حتى عام 2003، باستثناء عام 1991، عندما خرج من التشكيل في أول حكومة بعد تحرير الكويت ليعود إلى منصبه في 1992.
وخلال عهده الوزاري، وافقت الأمم المتحدة على قبول انضمام الكويت لها، كما وضع صباح الأحمد خلال توليه وزارة الخارجية الخطوط العريضة للدبلوماسية الكويتية التي قامت على سياسة التوازن الاستراتيجي بين مختلف القوى في المنطقة، ومحاولة تذويب الخلافات بين الدول العربية والكيانات والفصائل المسلحة والأحزاب، والوقوف بشكل قاطع ونهائي مع القضية الفلسطينية، إضافة إلى العلاقات الدولية المتميزة والثابتة مع الولايات المتحدة وبريطانيا.
وتدخلت الوساطات الكويتية التي كانت برعاية شخصية من صباح الأحمد في الخلافات بين مصر والسعودية إبان الحرب اليمنية في (1962 ـ 1970)، كما تدخلت في محاولة لحل النزاعات بين البعثين السوري والعراقي، ومحاولة التوفيق بين أطراف النزاع في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). وأنشأت الكويت، خلال توليه وزارة الخارجية، لجنة لمساعدة دول الخليج العربي واليمن واليمن الجنوبي، فتكفّلت بنفقات التعليم والتدريس في دبي واليمن ومحمية عدن البريطانية وهي جهود أشرف عليها صباح الأحمد شخصياً.
حشد تأييداً دولياً لتحرير الكويت من العراق في الأمم المتحدة
النائب الأول
وفي ديسمبر/كانون الأول 1977، تولى الشيخ جابر الأحمد الصباح، وهو أخ غير شقيق لصباح الأحمد، منصب الإمارة عقب وفاة الشيخ صباح السالم الصباح. ووفقاً للدستور الكويتي، اختار الشيخ جابر الأحمد ثلاثة شيوخ لمنصب ولاية العهد على أن يقوموا بتزكية واحد منهم، وهم الشيخ سعد العبدالله والشيخ صباح الأحمد والشيخ جابر العلي، واختار الشيخ صباح الأحمد في خطوة مفاجئة التنازل عن ترشيحه لولاية العهد لصالح الشيخ سعد العبدالله ليضطر الشيخ جابر العلي للانسحاب من المشهد السياسي تجنباً لكسر إجماع الأسرة الحاكمة.
وبينما تولى الشيخ سعد العبدالله ولاية العهد ورئاسة الوزراء، تولى صباح الأحمد الجابر الصباح منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، إضافة إلى منصبه السابق كوزير للخارجية. وشهدت فترة الثمانينيات في الكويت تحديات كبيرة بسبب الحرب العراقية الإيرانية (1980 ـ 1988) وامتداد آثارها للكويت بعد محاولة اغتيال أمير البلاد والتي قام بها حزب الدعوة العراقي، وسلسلة تفجيرات استهدفت مقاهيَ شعبية وسفارات أجنبية بين أعوام 1983 و1985، إضافة إلى خلافات داخلية عميقة بين أقطاب الأسرة الحاكمة والمعارضة البرلمانية، انتهت بقرار الأسرة الحاكمة حل مجلس الأمة عام 1986 وتعليق الحياة السياسية في البلاد.
ومثّل الغزو العراقي للكويت عام 1990 تحدياً كبيراً لصباح الأحمد الجابر الصباح كوزير للخارجية، فقام بجهود كبيرة لحشد التأييد الدولي لقضية الكويت في الأمم المتحدة والذي انتهى بإصدار مجلس الأمة قرارات عدة لإجبار العراق على الانسحاب من الكويت، انتهت بقيام التحالف الدولي بإرسال قواته بقيادة الولايات المتحدة لتحرير الكويت عام 1991. وأُبعد صباح الأحمد من منصبه كوزير للخارجية لمدة عام كامل، بعد أن حُمّل جزءاً من مسؤولية فشله في تسوية الأزمة السياسية مع العراق والتي سبقت الغزو العراقي للبلاد، مع مطالبة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الكويت بتسوية ديونها للعراق، كما طلب استئجار جزيرتي وربة وبوبيان شمالي الكويت، وهو ما رفضته الكويت. ولم يستمر غياب صباح الأحمد عن الخارجية طويلاً إذ عاد إليها في أواخر عام 1992 كما عاد لمنصبه كنائب أول لرئيس مجلس الوزراء. واضطلع بدور مهم في إعادة بناء سياسة الكويت الخارجية من جديد، وساهم في إنهاء مشكلات الكويت الحدودية مع العراق على نحو نهائي، بعد قرار مجلس الأمن ترسيم الحدود والذي اعترفت به الحكومة العراقية عام 1994.
وقف الشيخ صباح الأحمد على الحياد في أزمة حصار قطر عام 2017، عاملاً على خط الوساطة
تولي مقاليد الأمور اليومية
في عام 1999، بدأت صحة أمير الكويت في ذلك الحين الشيخ جابر الأحمد الصباح وولي العهد سعد العبدالله السالم الصباح بالاعتلال، ما جعل صباح الأحمد يتولى مقاليد الأمور اليومية للبلاد بحكم منصبه كنائب أول لرئيس مجلس الوزراء، قبل أن يقرر أمير الكويت فصل ولاية العهد عن رئاسة الوزراء في عام 2003 ليصبح صباح الأحمد رئيساً للوزراء بشكل رسمي، ويقوم بسلسلة طويلة من الإصلاحات التي عطلها جمود الحياة السياسية طوال فترة التسعينيات من القرن الماضي بحكم مرض أمير البلاد وولي عهده الذي كان يتولى منصب رئاسة الوزراء. وأبرز هذه الإصلاحات التي قام صباح الأحمد بتمريرها، قانون حصول المرأة على حقها السياسي في الانتخاب والترشيح عام 2005، وتولي معصومة المبارك أول منصب وزاري لامرأة في تاريخ الكويت.
أزمة الحكم
بعد وفاة أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد في يناير عام 2006، نشبت أزمة سياسية كبيرة بسبب رفض ولي العهد الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح التنازل عن كرسي الحكم رغم مرضه واعتلال صحته، مما أدى إلى خلاف داخل الأسرة الحاكمة بين مؤيد لولي العهد آنذاك، ورئيس مجلس الوزراء آنذاك وهو الشيخ صباح الأحمد. وقرر مجلس الأمة وبناء على توصية طبية إعفاء ولي العهد من مهامه ومبايعة الشيخ صباح الأحمد أميراً للبلاد، مخرجاً البلاد من أزمة استمرت لأيام عدة.
خلال فترة توليه منصب الإمارة، حصلت المرأة الكويتية لأول مرة على مقعد لها في البرلمان
وخلال فترة توليه منصب الإمارة، حصلت المرأة الكويتية لأول مرة على مقعد لها في البرلمان بعد فوز 4 نائبات بكرسي مجلس الأمة عام 2009، كما حصلت المرأة الكويتية على حق توليها منصب القضاء وحق السفر لوحدها من دون إذن ولي أمرها. كما تعرض رئيس مجلس الوزراء لاستجواب برلماني في عهده، ما شكّل سابقةً في تاريخ الكويت السياسي، واستقال رئيسا مجلس وزراء من منصبيهما بعد ضغوط شعبية، وأجريت تعديلات على النظام الانتخابي ليصبح نظاماً ذا صوت واحد، بهدف تقليل سطوة الكتل البرلمانية والأحزاب السياسية، وهو ما أدى لمقاطعة المعارضة الانتخابات البرلمانية عامي 2012 و2013 قبل أن تعود للمشاركة في عام 2016.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد دعمت الكويت حق الشعوب في تقرير مصيرها إبان أحداث الربيع العربي عام 2011، كما رفض أمير الكويت إرسال قوات أمنية لقمع المتظاهرين في البحرين أثناء الاحتجاجات الشعبية هناك، وسمحت الحكومة للمنظمات والجمعيات الشعبية بدعم الثورة السورية مالياً وسياسياً، كما أحجمت الكويت عن المشاركة في قيام أنظمة خليجية بدعم الثورات المضادة في مصر وليبيا واليمن.
وساهم الشيخ صباح الأحمد بإنهاء الخلافات بين الإمارات وعمان، عقب اكتشاف مسقط خلية تجسسية إماراتية تعمل على أراضيها عام 2011. كما اشترك في صياغة بنود اتفاق الرياض عام 2014 بين قطر من جهة والسعودية والإمارات والبحرين من جهة أخرى، منهياً بذلك أزمة سحب السفراء.
ووقف الشيخ صباح الأحمد على الحياد في أزمة حصار قطر عام 2017، رافضاً الانخراط مع السعودية والإمارات، ومؤكداً أن الشروط الـ13 التي فرضت على قطر هي شروط تمس بالسيادة، كما قام بجولة مكوكية للوساطة في الأزمة الخليجية من دون أن يلقى استجابة من السعودية أو الإمارات، إلا أن ذلك لم يمنعه من التمسك بموقفه بضرورة حل الخلافات الخليجية بالحوار نظراً لتأثيرها السلبي على مجلس التعاون الخليجي الذي يعد من أبرز مؤسسيه.
وساهم الشيخ صباح الأحمد إبان توليه منصب وزارة الخارجية في تأسيس منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والتي وضع خطوطها العريضة في عام 1981، وتولى مسؤولية تمثيل كرسي الكويت فيها لأعوام طويلة. كما أنيطت به مسؤولية التقريب في وجهات النظر بين دول المنظومة، التي غالباً ما كانت خلافاتها حدودية. ورغم الخلافات التي أصابت منظومة مجلس التعاون الخليجي وسعي السعودية للسيطرة على المنظومة أو تقويضها، فإن أمير الكويت حاول الحفاظ على وحدة المنظومة وحيادها، حيث تعتبر وحدة المنظومة مسألة وجودية بالنسبة للكويت كونها تحقق توازناً سياسياً لها في وجه العراق وإيران.