لم تكن سماء أوكرانيا في متناول روسيا منذ الأيام الأولى للحرب، وهي التي خططت لتحقيق الهيمنة الجوية خلال أسابيع. أثبتت الدفاعات الأوكرانية -وبعضها يعود إلى الحقبة السوفييتية، من قبيل منظومة "إس 300"، وما أضيف إليه من منظومات تسلّمتها أوكرانيا خلال الحرب، ومن ضمنها نظام "إيريس تي إس إل إم" الألماني- نجاعة في تحييد معظم التهديدات الجوية؛ لكن منظومة "باتريوت" أحدثت أثرًا أبعد من ذلك: اعتراض الصواريخ الفرط صوتية التي روّجت لها روسيا باعتبارها عصية على الاعتراض.
هذا ملخّص تقرير موسّع نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، اليوم الأحد، وتتبعت خلاله عمل وحدات الدفاع الجوي الأوكرانية التي انتهت من التدريب على منظومة "باتريوت" في الأشهر الأخيرة، ليسجّل نظام الدفاع الجوي الأميركي هذا أول اعتراض له، في مايو/ أيار الفائت.
وتسرد الصحيفة ما حدث في الساعة الثالثة والنصف من فجر "أحد الأيام القريبة"، حين تلقى أحد طواقم منظومات "باتريوت" إنذارًا باقتراب 12 صاروخًا روسيًّا من العاصمة الأوكرانية، وبعضها كان متّجهًا إلى بطاريات "باتريوت" نفسها، بسرعة تفوق ستة أضعاف سرعة الصوت. "لم يكن ثمّة هلع في صفوف الطاقم"، يقول قائدهم للصحيفة، لأنه "لم يكن ثمّة وقت لذلك".
ستة من تلك الصواريخ كانت من طراز "كينجال" الفرط صوتي، وهو الصاروخ الذي ظلّت روسيا تعتدّ باستحالة اعتراضه من قبل أحدث الدفاعات الجوية في العالم. قبل أيام من ذلك، سجّلت "باتريوت" أوّل اعتراض لصاروخ "كينجال"، وأيضًا أثناء الحرب.
وفي تلك الليلة، تحديدًا السادس عشر من مايو/ أيار، رصدت "باتريوت" الصواريخ الستة على بعد 125 ميلًا (200 كيلومتر)، وتعقّبتها حواسيبها ثمّ أطلقت الصواريخ الاعتراضية، وحطّمتها جميعًا في الجو؛ آخرها كان على بعد نحو 9 أميال (14 كيلومتراً) من الأرض، وثوانٍ من إحداث الدمار.
ويقول قائد الوحدة 96 في فرقة الدفاع الجوي، الكولونيل سيرخي ياريمينكو، للصحيفة: "لم يكن أحد على يقين بنسبة 100% من أنّ صاروخ باتريوت مؤهل لتدمير صاروخ كينجال االأسرع من الصوت؛ لكن الأوكرانيين أثبتوا ذلك".
وبحسب الصحيفة، فإنّ "باتريوت" هي النظام الدفاعي الوحيد القادر على مواجهة الصواريخ الباليستية الروسية التي تفاخر الكرملين بأنه لا يمكن إيقافها. وبدمج صواريخ "باتريوت" مع أنظمة الدفاع الجوي الغربية الأخرى، بالإضافة إلى ما لدى أوكرانيا من ميراث الاتحاد السوفييتي، أصبحت معظم التهديدات الجوية الآن في المتناول- من الصواريخ الباليستية، إلى صواريخ كروز، وصولًا إلى الطائرات بدون طيار.
ووفقًا للصحيفة، فقد كانت الحرب الأوكرانية بمثابة اختبار ناجح للأسلحة الأميركية الدفاعية، بما يشمل، بالإضافة إلى "باتريوت"، صواريخ "جافلين" المضادة للدبابات، و"ستينغر" المضادة للطائرات. رغم ذلك، فمن المقرر استبدالها جميعًا بترسانة أميركية محدّثة ومطوّرة، ما زالت قيد الاختبار الآن، ما يسهّل، من ناحية أخرى، تسليم النسخ الأقدم لأوكرانيا، أو بيعها لدول أخرى.
وفي الوقت الذي يطالب فيه الرئيس الأوكراني، فولودومير زيلينسكي، بالمزيد من بطاريات "باتريوت"، فقد رفعت شركة "رايثيون تيكنولوجيز" المصنّعة لها إنتاجها إلى 12 منظومة سنويًّا، 5 منها من المخطّط تسليمها لأوكرانيا نهاية العام المقبل، وفق ما تنقل الصحيفة عن الرئيس التنفيذي للشركة، غريغ هايز.
هايز نفسه قال إنه "فوجئ بفعاليتها"، مشيرًا إلى أنها، إلى جانب أنظمة دفاع جوي أخرى، اعترضت 90% من التهديدات الجوية، بعدما أدخلت أوكرانيا تعديلات على برمجية "باتريوت" لتمكينها من تعقب وتدمير الصواريخ الفرط صوتية، والتي تطير بضعف السرعة التي صُممت لاعتراضها.
ومما يميّز المنظومة الأميركية أنها قابلة للتشغيل يدويًّا أو بشكل ذاتي. تضمّ محطة الإطلاق الواحدة منها وحدة تشغيل عن بعد، وقاذفة، وما يصل إلى 16 صاروخًا اعتراضيًّا. يمكن للرادار الواحد مراقبة الأهداف بدائرة قطرها 12 درجة في السماء، واكتشاف التهديدات الواردة في هذا النطاق على بعد 100 ميل (160 كيلومتراً)، وعلى ارتفاعات قد تصل إلى 30 ألف قدم. في لحظة افتراضية، يجري الكمبيوتر حساباته حول مسار التهديد القادم، ثمّ يصوّب ويطلق الصواريخ الاعتراضية، وهي أيضًا قابلة للتوجيه إلى الهدف حتى أثناء طيرانها.
لكن البطارية الواحدة تحتاج نحو 90 جنديًّا لتشغيلها، وإن كان 3 فقط يكفون لإدارة محطة التحكم في الميدان. كذلك، تبلغ تكلفة كل نظام "باتريوت" حوالي مليار دولار، ويستغرق عامين لإتمامه، بينما يصل سعر الصواريخ الاعتراضية إلى 4 ملايين دولار.
تلك المعطيات تدفع المشغّلين الأوكرانيين إلى اتخاذ قرارات متأنية حول "ما الذي تحاول إسقاطه"، وفق تعبير الصحيفة. في ترسانة الدفاعات الجوية الأوكرانية أنظمة من قبيل "ناسماس" و"هوك" القادرتين على التكفّل بصواريخ كروز منخفضة التحليق، وكذلك الطائرات الإيرانية المسيّرة الرخيصة نسبيًّا. لكن أوكرانيا تكافح لاعتراض الصواريخ الباليستية الروسية التي تُطلق بداية عبر صاروخ، ثم تنحني فجأة نحو هدفها. كذلك، تُطلق روسيا صواريخها من طراز "كينجال" باستخدام طائراتها، مما يصعّب مهمة تتبعها.
وبعدما أنهى مع وحداته نحو 10 أسابيع من التدريب على "باتريوت"، قبل الموعد المحدد سلفًا، يصف ياريمينكو تلك المنظومة -التي قلل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من أهمية تسليمها لأوكرانيا وتعهّد بـ"دكها لأنها قديمة نسبيًّا"- بأنها أعظم مستوى من الأنظمة السوفييتية لا سيما من حيث الأتمتة والتكامل: "إذا اشتريت سيارة من طراز 1989، ثم انتقلت إلى سيارة من إنتاج 2020، فعلى الأرجح ستلاحظ الفرق- إنها سفينة فضائية".