بعد 11 عاماً على الثورة الليبية وإسقاط نظام معمر القذافي، لا تزال البلاد غارقة في دوامة من الفوضى السياسية والعسكرية، من دون النجاح في تمهيد الطريق لحل دائم ينهي الأزمات التي تعاني منها.
عوامل داخلية وخارجية تداخلت لتُفشل كل محاولات إنهاء الصراعات القائمة، من تمسك شخصيات عسكرية وسياسية بالبقاء في المشهد، واستغلال كل الطرق السياسية والعسكرية لذلك، إلى تنافس على المصالح بين دول مختلفة وتوجيه رسائل من الساحة الليبية.
ولعل أبرز صور فشل الخروج من المأزق القائم، الإطاحة بالانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة أواخر العام الماضي، بعد إعادة شخصيات من النظام السابق إلى الواجهة، لعل أبرزها سيف الإسلام القذافي.
وتلا ذلك خلاف حول شرعية استمرار حكومة عبد الحميد الدبيبة، ليتجه رئيس البرلمان عقيلة صالح إلى الدفع لإقرار خريطة طريق جديدة، انتهت باختيار رئيس جديد للحكومة هو فتحي باشاغا، وعمّقت الخلافات بوجود سلطتين تنقسم حولهما الأطياف السياسية والعسكرية.
حداثة التجربة الديمقراطية في ليبيا
انضمت ليبيا مبكراً لدول الربيع العربي عام 2011، إذ كانت الأوضاع فيها مرجحة للانفجار، بعد أربعة عقود من الحكم الاستبدادي الذي قاده القذافي، وكانت تبعاتها كارثية على مختلف صُعد حياة الليبيين، السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية.
لكن موت القذافي لم يساعد على ترك الذين انضموا للانتفاضة لسلاحهم، فقد تلا موته مراحل معقدة تشابكت فيها الصراعات الداخلية بالتدخل الخارجي.
وبعد 11 سنة من الانتفاضة وعلى الرغم من نجاحها في إسقاط نظام القذافي، إلا أنها لم تتمكن من اجتثاث أفكاره وثقافته الاستبدادية. فقد سعى اللواء المتقاعد خليفة حفتر، رفيق القذافي القديم منذ انقلاب عام 1969، لتمثيل هذا الإرث عسكرياً، ولا يزال يحاول حتى الآن وإن بنكهة مختلفة، عبر اللجوء إلى صناديق الانتخابات أو التحالفات السياسية.
عاد حفتر في ثوب سياسي يجنح نحو خيار الشعب الليبي في الانتخابات وبناء الدولة المدنية
ومن مفارقات الانتفاضة أن يتخذ حفتر من بنغازي، شرارة الثورة الأولى، مركزاً لانطلاق حراكه العسكري الذي انتشر إلى أغلب أجزاء البلاد، وصولاً إلى العاصمة طرابلس التي أطلق عام 2014 ما يسمى بـ"عملية الكرامة" لإسقاطها، قبل أن ينكسر وتنكمش داخل بنغازي مجدداً. وعاد حفتر في ثوب سياسي يجنح نحو خيار الشعب الليبي في الانتخابات وبناء الدولة المدنية.
شكّل امتناع المقاتلين عن ترك سلاحهم، بعد سقوط النظام، أولى عقبات مضي البلاد نحو البناء السياسي لدولة ديمقراطية كان ينشدها الليبيون.
لكن عبد المنعم القزيري، أحد المشاركين في الانتفاضة عام 2011 في مصراتة، يدافع عن ذلك، ويراه في حديث مع "العربي الجديد"، "فطنة من جانب الثوار"، وتوجساً مسبقاً من بقاء إرث القذافي "الذي لا يمكن رده إلا بالسلاح"، متسائلاً "من يردع أمثال حفتر لو سلمنا السلاح؟". ويضيف أن السلاح لم يكن عائقاً أمام إجراء أول انتخابات في البلاد عام 2012، أقبل عليها الليبيون بكثافة.
ويعبّر القزيري عن استغرابه لقبول الليبيين بحفتر شريكاً سياسياً على الرغم من أن خصومه في الجبهات هم أنفسهم ثوار فبراير.
لكن الناشط السياسي عقيلة الأطرش، والذي كان أحد الثوار من بنغازي، يرى أن الليبيين قادرون على مقاومة حفتر وأمثاله بالرفض الشعبي الكامل من دون سلاح.
ويعتبر في حديث مع "العربي الجديد" أن بقاء السلاح خارج مؤسسات الدولة وانتشاره بيد الناس كان النواة الأولى التي كوّن بها حفتر مليشياته، في إبريل/نيسان 2014 في بنغازي، وبسببه جرّ الانتفاضة والبلاد إلى أتون الفوضى إلى اليوم "واضطر الثوار إلى خوض الحروب ضده".
ويقول الأطرش: "حفتر دموي ومستبد ولن يرحمنا إذا تمكّن من الحكم، لكن الآخرين في الأجسام السياسية هم أيضاً مستبدون، فعندما تقاربت مصالحهم اتفقوا على التمديد لأنفسهم على كراسي الحكم"، مؤكداً أنه يؤمن بما يقوله التاريخ عن نهاية المستبدين ووصول الشعوب إلى تطلعاتها يوماً.
وبغض النظر عن هذه الآراء وعلاقة السلاح بانزلاق البلاد إلى أتون الحرب، بدا أن البلاد لم تكن مستعدة بشكل كافٍ لخوض التجارب الديمقراطية. فقبل التجهيز لأول انتخابات برلمانية عام 2012، بدأت تطفو إلى السطح الاصطفافات السياسية الحادة، خصوصاً بين أبرز تيارين سياسيين، الإسلام السياسي الذي شكّل حزب "العدالة والبناء"، والعلماني الذي كوّن حزب تحالف القوى الوطنية.
وتموضع التياران داخل المؤتمر الوطني العام (البرلمان) لتظهر أولى ملامح الصراع في البلاد بعد الانتفاضة، خصوصاً أن كليهما شد إلى جانبه عدداً من التشكيلات المسلحة.
وفي الانتخابات البرلمانية الثانية عام 2014، اصطف مجلس النواب إلى جانب حفتر، متخذاً من طبرق مقراً له، ما شكّل غطاء سياسياً له ليشرعن حروبه.
في المقابل، عاد المؤتمر الوطني العام إلى الواجهة ليشكّل واجهة سياسية لخصوم حفتر من المقاتلين الذين أطلقوا عملية "فجر ليبيا"، التي تمكّنت من السيطرة على طرابلس وطرد أنصار مجلس النواب من كامل مناطق غرب البلاد.
وتمددت عملية "فجر ليبيا" لتصل إلى مدينة الزنتان أقصى الغرب، ووصلت شرقاً إلى تخوم منطقة الهلال النفطي، وسط البلاد.
إلا أن العملية توقفت بسبب تراكم الوجود الخارجي الذي بدأ يصطف وراء الأمم المتحدة وبعثته، التي دفعت البلاد للدخول في مرحلة حوار سياسي، بعدما انقسمت لنصفين، في الغرب برلمان (المؤتمر الوطني العام) أعادته المحكمة العليا، وحكومة وجيش، وفي الشرق مجلس النواب الذي لم يعترف بقرار بطلان انعقاد جلساته في طبرق وأنتج حكومة ورعى لفيفاً من المليشيات بقيادة حفتر.
ومنذ ذلك الوقت انخرطت الأمم المتحدة بقوة في الشأن الليبي، فقادت حواراً عام 2015، أفضى في نهاية العام إلى توقيع اتفاق في الصخيرات المغربية.
والحوار الثاني أنتج تشكيل لجنة حوار مؤلفة من 75 عضواً ليبياً ووقّع على خريطة طريق تونس في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بالتزامن مع توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين 10 ممثلين عسكريين لكل من معسكري البلاد، شرقاً وغرباً.
فشل اتفاق الصخيرات ثم خريطة طريق تونس في إيجاد حلول للأزمة الليبية
لكن الاتفاقين فشلا في قيادة البلاد إلى حلول لأزماتها. ففي الاتفاق الأول أفشل مجلس النواب تشكيل أول حكومة وفاق وطني بقيادة فايز السراج، ورفض منح حكومته الثقة. وكافحت حكومة السراج للبقاء بعيدة عن التجاذبات السياسية، وعدم التصادم مع حفتر.
إلا أن عدم اعتراف مجلس النواب بها حوّلها إلى طرف سياسي وخصم عسكري لحفتر، الذي وجد في عدم قدرتها على فرض نفسها على قوة التشكيلات المسلحة في طرابلس وغرب البلاد عموماً ذريعة لإطلاق عملية عسكرية للسيطرة على طرابلس تحت شعار "محاربة المليشيات".
وفي الاتفاق الثاني وإن منح مجلس النواب الثقة لحكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، إلا أنه عرقل عملها. فرفض منحها الميزانيات وغضّ الطرف عن منعها من قبل حفتر من الوصول إلى العديد من المدن للممارسة أعمالها.
وعلى الرغم من أن حكومة الدبيبة كافحت للنأي بنفسها عن التماس مع حفتر، إلا أن الأخير تحالف مع مجلس النواب للتضييق على الحكومة سياسياً.
وبمرور الوقت، تحوّلت حكومة الدبيبة إلى طرف سياسي في غرب البلاد، يقابل طرفاً سياسياً في شرقها. وتصاعد الخلاف ليصل إلى أوجه مع اقتراب البلاد من مرحلة الانتخابات التي كانت مقررة في 24 ديسمبر الماضي، حين ترشح حفتر للانتخابات الرئاسية، كما ترشح الدبيبة أيضاً.
ثم تم سحب الثقة من حكومة الدبيبة، في سياق واضح كان يستهدف فيه عقيلة صالح، الدبيبة، خصوصاً أن قرار سحب الثقة في سبتمبر/أيلول الماضي، تزامن مع ترشحهما للانتخابات الرئاسية والذي تم التغاضي عنه حتى الأيام الأخيرة فتم إحياء القرار وتفجير أزمة جديدة.
ويقول أستاذ العلوم السياسية الليبي المبروك الشاوش، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الاتفاقين السياسيين لم يفضيا إلى توحيد البلاد، وإن تغيّرت الوجوه، إلا أن حفتر كان العامل الثابت في كل تفاصيل ومراحل المبادرات والاتفاقيات السياسية.
ويرى الشاوش أن "حداثة الليبيين بالتجارب الديمقراطية سهّلت على الخارج التدخّل في بلادهم، وجرهم مرغمين إلى الاستعانة بالخارج بعد أن فتح حفتر أبواب البلاد على مصراعيها للدول الداعمة للثورة المضادة للربيع العربي".
التدخلات الخارجية في الحرب الليبية
على الرغم من الفوضى التي عاشتها البلاد بمختلف أشكالها، كنشاط المجموعات الإرهابية، والتهريب بمختلف أنشطته أكان المخدرات أو السلاح، أو قضية المهاجرين غير النظاميين التي أصبحت ملفاً دولياً، إلا أن حروب حفتر التي توسعت لتشمل أغلب أجزاء البلاد، وطاولت مناطق النفط، كانت من أبرز دوافع الفاعلين في الداخل والخارج للبحث عن حلول في المداولات السياسية.
عدوان حفتر على طرابلس، فتح الباب للتوغل الروسي والتركي العسكري في البلاد، وإن كان هذا التوغل منح فرصة لوقف القتال باعتبار توازن القوى القائم، فروسيا ساندت مليشيات حفتر، وتركيا كانت إلى جانب قوى الغرب الليبي.
عدوان حفتر على طرابلس، فتح الباب للتوغل الروسي والتركي العسكري في البلاد
إلا أن ملف المرتزقة والتدخل الأجنبي العسكري شكّلا دافعاً لانخراط دولي جديد، تمثّل في كثافة حضور العواصم الغربية المتوجسة من خطر التوغل الروسي في ليبيا والمنطقة، لا سيما واشنطن، فيما بدت موسكو متمسكة بوجودها في البلاد كورقة ضغط لتمرير مصالحها في ملفات أخرى أكثر أهمية في إطار مواجهاتها مع الغرب.
ويعتبر المحلل السياسي مروان ذويب، أن هذا الملف كان "من العوائق التي أفشلت إجراء الانتخابات في ديسمبر الماضي".
كان أساس اتفاق تونس، وفق خريطة الطريق التي أنتجها، وصول البلاد إلى الانتخابات في ديسمبر، عبر سلطة تنفيذية تم انتخابها في فبراير/شباط من العام الماضي تعمل أساساً على ملفي المصالحة الوطنية وتهيئة الظروف للانتخابات، إلا أن هذا المسار انحرف بشكل كبير بسبب التدخلات الخارجية، وفقاً للذويب.
ويرى الذويب، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الرأي العام كان واهماً بظنه أن سبب فشل الانتخابات كان الصراع الداخلي بين مختلف الشخصيات للوصول إلى السلطة عبر الانتخابات، ومن أجل ذلك صمم عقيلة صالح قوانين انتخابية تقصي كل الخصوم وعلى رأسهم الدبيبة.
ويعتبر أن الأسباب الحقيقة هي المصالح الخارجية المختلفة، فـ"لم تهدف واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون من دعمها خيار الانتخابات سوى إنتاج سلطة سياسية جديدة تتمكن من خلالها في إرغام موسكو على الخروج من ليبيا، فيما زجّت الأخيرة بشخصية جدلية أفسدت كل شيء هو سيف الإسلام القذافي الذي كان واضحاً أنه جاء للتشويش، فكما ظهر فجأة اختفى فجأة أيضاً".
ويعطي مثالاً على ذلك الصراع الدائر في دوائر مجلس الأمن الدولي حول البعثة الأممية في ليبيا والخلاف حول من يترأسها.
عودة الانقسام السياسي
الانسداد السياسي أفضى إلى تنامي ملامح عودة صراع جديد، والرجوع للانقسام الحكومي مجدداً. وبعد أن فشلت المفوضية العليا للانتخابات في إجراء الانتخابات في ديسمبر الماضي، وأعلنت القوة القاهرة على الاستحقاق، من دون أن تحدد معنى هذه القوة، قرر مجلس النواب في ديسمبر الماضي، وضع خريطة طريق تحدد موعداً جديداً للانتخابات، بدل خريطة ملتقى الحوار السياسي التي لا يزال الوقت مبكراً لانتهاء أجلها في يونيو/حزيران المقبل.
وأدى ذلك لتفجر الأوضاع من جديد وذهابها إلى منحنيات جديدة لا تقل خطورة عن السابق. أفضت خريطة طريق مجلس النواب، التي أقرها يوم الخميس الماضي، إلى ظاهرة سياسية جديدة، بحسب الشاوش، هي "ظاهرة التحالف غير المعلن التي مهد لها زخم الانتخابات الذي نقل البلاد من مرحلة الصراع العسكري إلى مرحلة صراع سياسي حاد".
ويبيّن ملامحها في ثلاثة مستويات، أولها تحالف غير معلن بين الدبيبة والمستشارة الأممية ستيفاني وليامز، التي عادت للبلاد قبل أيام من موعد 24 ديسمبر، لإنقاذ خريطة الطريق التي صممها اتفاق تونس وأشرفت عليها. وجاءت عودتها في خضم الخلافات العميقة في مجلس الأمن حول رئاسة البعثة الأممية.
ويعتبر الشاوش أن هذا الحلف غير المعلن، ظهر في تبني الدبيبة خطة للانتخابات ضمن الإطار الزمني لاتفاق تونس، ليشكل له أحد ضمانات بقاء حكومته، لتتحول إلى حكومة معترف بها دولياً.
والمستوى الثاني للظاهرة السياسية الجديدة، بحسب الشاوش، تحالف آخر غير معلن بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، على الرغم من أنهما مثّلا قطبي الصراع في السابق.
وبدأت ملامح التقارب في الظهور مع الحديث عن لقاء رئيسيهما، عقيلة صالح وخالد المشري، في المغرب في يناير/كانون الثاني الماضي، لتظهر تأكيدات هذا الحلف في اتفاقهما على ضرورة إنجاز خريطة طريق قوامها تعديل دستوري وتغيير حكومي.
انتقل الصراع السياسي إلى غرب البلاد، وتحديداً إلى مصراتة، التي ينتمي لها الدبيبة وباشاغا
أما ثالث المستويات، وفق الشاوش، فيتمثل في نقل حالة الصراع السياسي إلى غرب البلاد، وتحديداً إلى داخل مدينة مصراتة، التي ينتمي لها الدبيبة وباشاغا، وسط اصطفافات سياسية وعسكرية أظهرتها العديد من البيانات التي صدرت من داخل المدينة وخارجها لتأييد قرار تغيير الحكومة أو رفضه.
وعلى الرغم من الغموض الكبير الذي يقف وراء هذه التحالفات، لكن الأكثر إثارة للقلق هو التقارب بين باشاغا وحفتر، وهو ما عبّرت عنه العديد من البيانات التي أصدرتها قوى مدنية وعسكرية، وتحدثت فيها عن توجسها من أن يكون هدف حفتر من هذا التقارب الوصول إلى طرابلس سياسياً بعد أن فشل عسكرياً بانقلاب ناعم.
وإزاء هذا المنزلق الجديد الذي قد تنجر له البلاد مع استقبالها ذكرى جديدة لثورتها، لا يزال العديد من الناشطين يأملون في انتفاضة جديدة لإقصاء كل المتمسكين بالبقاء في الحكم.