في حضرة نوفمبر/ تشرين الثاني، يستعيد الجزائريون نَفَس الثورة المظفّرة التي حرّرت الأرض والعرض والإنسان، واستعادت البلاد من قبضة الاستعمار الفرنسي، بعد 132 عاماً من الاحتلال الذي عمل على محو كل آثار الهوية الجزائرية، وطمس اللغة العربية والدين الإسلامي.
60 سنة بعد ثورة التحرير، التي أتاحت للجزائر الحصول على استقلالها في 5 يوليو/ تموز 1962، بعد كفاح استمر سبع سنوات ونصف ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم. لم تكن ثورة بموجب صدفة تاريخية، بل كانت نتاج تراكم العمل الوطني والثوروي، وكردّ فعل على الممارسات المقيتة للاستعمار، خصوصاً بعد مجازر الثامن من مايو/ أيار 1945، التي ذهب ضحيتها 45 ألف جزائري.
كل شيء كان جاهزاً لإشعال الثورة، وفي صيف عام 1954، عقدت القيادات الثورية اجتماعات متواصلة، حتى شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام عينه. واجتمع 22 مناضلاً، أبرزهم الرئيس الراحل محمد بوضياف وأحمد بن بلة، والشهداء زيغود بيوسف ومصطفى بن بولعيد والعربي بن مهيدي، وأقرّوا مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، موعداً لإطلاق الثورة والكفاح المسلح والعمل على إيجاد الدعم الشعبي المحلي والسياسي الخارجي للثورة من أجل القضية الجزائرية.
احتاجت الثورة إلى ضريبة دم بلغت مليون ونصف مليون من الشهداء والآلاف من المهجرين واللاجئين والجرحى والأيتام، واستخدمت فرنسا كل الوسائل لإخمادها، واستعملت شتى أنواع التعذيب في حق الجزائريين، قبل أن تنال البلاد استقلالها في 5 يوليو 1962، وتبدأ مسار القضاء على كل مظاهر التخلّف والآثار الوخيمة التي خلّفها الاستعمار الفرنسي.
وبدأ مسار التشييد والبناء وبناء الدولة الوطنية واقامة البنى التحتية والجسور والموانئ والطرقات وانشاء الجامعات، التي بلغت الآن 103 جامعات، وارتفع عدد الطلاب الجامعيين من 500 طالب عام 1962 إلى 1.6 مليون طالب جامعي حالياً. كما ارتفع عدد المستشفيات في الجزائر بشكل كبير وتحسنت ظروف الرعاية الصحية، وتدنت نسبة الأمية إلى أقل من 20 في المئة من مجموع السكان، وتجاوز عدد التلاميذ في المدارس أكثر من ثمانية ملايين تلميذ.
كما تعزز قطاع النقل في الجزائر بأكثر من 29 مطاراً وطرقات تشقّ البلاد وتربط حدودها الشرقية مع تونس بحدودها الغربية مع المغرب على مسافة 1200 كيلومتر، إضافة الى ميترو أنفاق في العاصمة الجزائرية وقطارات في 17 ولاية.
وتوالى سبعة رؤساء جمهورية على حكم الجزائر منذ الاستقلال، بدءاً من الرئيس الراحل أحمد بن بلة، الذي حكم في الفترة بين 1962 حتى عام 1965، وأُطيح به في انقلاب عسكري، وتولى الرئيس الراحل هواري بومدين الحكم في الفترة بين 1965 و1978، ليتولّى الرئيس الشاذلي بن جديد سدة الحكم حتى يناير/ كانون الثاني 1992، حين استقال من منصبه بضغوط من الجيش.
ومع بداية الأزمة الأمنية في البلاد، تولى الرئيس الراحل محمد بوضياف الحكم حتى يونيو/ حزيران 1992، حين اغتاله أحد عناصر الحرس الرئاسي، وخلفه الرئيس علي كافي، حتى ديسمبر/ كانون الأول 1994، وخلفه الرئيس اليمين زروال الذي بقي في منصبه حتى أبريل/ نيسان 1999.
وتولّى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة سدة الحكم في ابريل 1999، وأُعيد انتخابه لدورتين أخريين في 2004 و2009. وأنجز بوتفليقة أهدافاً هامة، أبرزها إطفاء نار الفتنة ومعالجة الأزمة الأمنية في البلاد وانعاش الاقتصاد الوطني واعادة صورة الجزائر في الخارج.
برأي الباحث في علم الاجتماع السياسي، ناصر جابي، فإن "هذا المسار لم يكن موفّقاً في كثير من مراحله ومخرجاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية أيضاً، بسبب تعدد الخيارات السياسية وتناقضها أحياناً، مع طبيعة ومنظومة المجتمع على امتداد عقود ما بعد الاستقلال.
إذ ظلّ الصراع "طافحاً" بين التيار الفرانكفوني، الذي وجد في الموروث اللغوي والثقافي للاستعمار قاعدة رئيسة لبناء الدولة الجديدة وفق هوية لا تضع بالضرورة الهوية الوطنية العنوان الأبرز للدولة الناشئة من جهة، وبين التيار العربي ـ الإسلامي الذي سعى إلى استعادة مقومات الهوية الوطنية، كاللغة العربية والإسلام، كمستند رئيسي لأي تطور اجتماعي واقتصادي.
وبين التيارين، كان تيار ثالث يتغذى على هذا الصراع، وهو التيار الأمازيغي (البربر)، الذي تطورت مطالبه إلى مسعى استعادة الهوية الأمازيغية والثقافة البربرية الأصيلة في المنطقة. وهو التيار الذي وجد في التيار الفرانكفوني جداراً سياسياً استند إليه، خصوصاً بعد أحداث الربيع الأمازيغي في أبريل 1980.
لم يحسم أي طرف هذه الصراعات، لكن الصراع في حد ذاته هو الذي حسم المشهد ورسم الوضع الحالي للجزائر، وضعٌ تتجلّى فيه الخيبة الاجتماعية والإفلاس الاقتصادي والاحتقان السياسي المزمن. وهو وضع يتناقض تماماً مع ما هو متوافر في البلاد من الثروات النفطية والمياه والأراضي الخصبة والعنصر البشري.
برأي كثير من الجزائريين، فإن فشل الدولة الوطنية في تحقيق الحدّ الأدنى المطلوب من المكتسبات الطموحة لجيل الثورة، أفضى إلى تفكك رهيب في المنظومة الاجتماعية، ودفع للمرة الأولى بصراع الهويات في الجزائر إلى الصعود في مشهد الأحداث.
ففي أبريل 1980، بات مطلب الهوية الأمازيغية ضمن الأجندة السياسية لقسم من القوى السياسية التي كان نشاطها السياسي محظوراً آنذاك، كحزب "جبهة القوى الإشتراكية"، ثم مطالبات الطوارق في منطقة الصحراء وجنوبي البلاد، والصراع المذهبي الدامي بين السكان الإباضيين والمالكيين في منطقة غرداية، جنوبي الجزائر.
وبرأي الباحث محمد بغداد، الذي ألّف كتباً عدة عن الهوية في الجزائر، فإن مأزق إنجاز الدولة الوطنية الجامعة لعموم الشعب هو نموذج لم يعد يتوافق مع المتغيّرات التي شهدتها الجزائر. وقال، رداً على سؤال لـ"العربي الجديد"، إن "نموذج الدولة الوطنية التي تصوّرها جيل الرواد، قد تجاوزه الزمن ومسحته من الوجود الثورات التكنولوجية الجديدة التي أغفلتها النُّخَب الحالية".
وأضاف أن "صياغة مشروع وطني، تكون نتيجته بناء دولة حقيقية وليس هياكل، ويكون خلاصة إرادة مجموعة بشرية حية". ولا تقتصر الخيبة على فشل السلطة التي تعاقبت على حكم البلاد، لكن النخبة السياسية نفسها فشلت في وضع أسس للتغيير السلمي.
ويؤكد الناشط السياسي، حمزة عتبي، أن الفشل السياسي أتاح الفرصة للعسكر للسيطرة على القرار السياسي والتوجه بالبلاد في اتجاهات متناقضة أحياناً. ويضيف: "الدولة الوطنية والثوروية فشلت في صياغة مشروع وطني وبناء الدولة. ويعود ذلك إلى عجز السياسيين وضعف الطبقة السياسية في فرض مشروع بناء دولة، ما دفع الجيش إلى أخذ زمام المبادرة والسيطرة على القرارات السياسية".
ويعتبر أنه "على الرغم من مرور أكثر من 50 سنة على استقلال الجزائر، إلا أنه ما زال السياسي يأتمر بأوامر العسكري. وكانت هناك فرصة في سنوات التسعينات لوضع مشروع بناء دولة، لو أحسنت القوى السياسية التي أتيح لها دخول الجزائر في التعددية السياسية استغلال ذلك المناخ السياسي الاستثنائي".
لكن مؤسسة الجيش، الذي كان طيلة مدة زمنية معينة يُحكم سيطرته على الحياة السياسية، وجدت في حالة الفوضى الاجتماعية والسياسية التي انخرطت فيها البلاد بداية التسعينات مبرراً لإعادة اعتماد نظرية "المسلك الطبيعي" في ظلّ ضعف القوى السياسية المعارضة التي لم تتمكن من طرح مشروع جدي لبناء دولة.
بعد 60 عاماً من الثورة، يقف الجزائريون على أعتاب مقامات الشهداء في خجل ووجل. خجل، اعتذاراً من الشهداء الذين كانوا يطمحون وهم في خضمّ الكفاح المسلح لبناء الدولة الجديدة الحرة والديمقراطية المتشبّعة بالهوية التي يتعامد فيها الإسلام والعربية والأمازيغية، ووجل، من مخاطر التفتّت الداخلي نتيجة الاحباط الاجتماعي والنوازع الاقليمية وعودة يد الاستعمار في أشكال متعددة.