استطاع الرئيس السوداني عمر البشير النجاة من مأزق جديد، مع إعلان المحكمة الجنائية الدولية تجميد ملف "جرائم الحرب في إقليم دارفور" غربي السودان، وسط تساؤلات عما إذا كان التجميد يدخل في إطار صفقة دولية ما.
وفي أول ردة فعل على قرار المحكمة الجنائية، اعتبر البشير القرار بمثابة انتصار لإرادة الشعب السوداني الذي رفض التعامل مع الجنائية، قائلاً "إن الشعب يرفض تماماً تسليم أي مسؤول لمحاكم الاستعمار".
قرار التجميد ردّته المدعية العامة في المحكمة الجنائية فاتو بنسودا إلى عدم تحرك مجلس الأمن الدولي للضغط من أجل اعتقال المتهمين في الملف للمثول أمام المحكمة، ومن بينهم البشير ووزير الدفاع السوداني عبدالرحيم محمد حسين، اللذان صدرت بحقهما مذكرتا توقيف قبل خمسة أعوام.
وأكدت أن "الخطوة تضع المحكمة في مأزق باعتبار أنها ستشجع الجناة على مواصلة ارتكاب جرائمهم الوحشية".
وكان مجلس الأمن قد أحال في العام 2005 ملف الجرائم في دارفور إلى الجنائية الدولية للتقصّي حوله، لا سيما بعد تواتر تقارير عن انتهاكات ضد الإنسانية ارتُكبت إبان الحرب الأهلية التي اندلعت في الإقليم في العام 2003.
وأصدرت المحكمة أول مذكرتي توقيف ضد مسؤولين سودانيين في العام 2007، حين أمرت باعتقال وزير الدولة السابق في وزارة الداخلية ومسؤول ملف دارفور وقتها أحمد هارون، إضافة إلى قائد قوات الدعم السريع (الجنجويد) علي محمد علي عبدالرحمن المعروف بعلي كوشيب، ووجّهت لهما 51 تهمة تتصل بجرائم ضد الانسانية والقتل والاغتصاب والتعذيب.
وبعدها بعامين أي في 2009، أصدرت المحكمة مذكرة توقيف أخرى بالتهم نفسها في حق البشير، وتلتها مذكرة توقيف ضد وزير الدفاع الحالي عبدالرحيم محمد حسين.
ورفضت الحكومة في الخرطوم طيلة تلك الفترة الاعتراف بالمحكمة أو التعامل معها، وتحدى البشير قرارات المحكمة بالقيام بعدة زيارات خارجية على الرغم من المحاذير التي صدرت وقتها من احتمال توقيفه وتسليمه إلى المحكمة، خصوصاً أنه زار دولاً صادقت على اتفاقية المحكمة الجنائية، من دون أن تُقدم على تسليمه.
وتزامنت مذكرتا التوقيف في 2007، مع الجدل القائم وقتها بين الحكومة والمجتمع الدولي بشأن نشر قوات دولية في إقليم دارفور، الأمر الذي كانت ترفضه الحكومة وأعلنت المواجهة مع المجتمع الدولي بشأنه، إلى أن توصلت هذه الأطراف إلى صيغة اتفاق قضى بنشر قوات ممثلة في البعثة الأممية المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة "اليوناميد" بعد عدة أشهر من قرار التوقيف.
وعند إعلان مذكرة التوقيف بحق البشير، ازداد التصعيد الحكومي مع المجتمع الدولي، وأقدمت الحكومة في الخرطوم وقتها على طرد ست منظمات أجنبية من البلاد. كما أطلق البشير تصريحات عنيفة ضد الجنائية الدولية والمدعي العام فيها (في ذلك الوقت) لويس مارينو أوكامبو، إذ قال في خطاب جماهيري في الفاشر، إن "المحكمة الجنائية الدولية وقضاتها ومدعيها وكل من يدعمها هم تحت حذائي". وتابع "قالوا لنا إذا تركتم المنظمات (غير الحكومية) تعمل فسنجمّد المذكرة في مواجهة الرئيس، ولكننا رفضنا ذلك".
ويرى مراقبون أن خطوة تجميد الملف، وإن كانت تُظهر إحباطاً لدى المحكمة الجنائية بسبب فشل مجلس الأمن في مساعدتها للقبض على المتهمين ومحاولة منها للضغط على المجلس للتحرك، إلا أنها تحمل بداخلها تسوية دولية تمت بواسطة فاعلين في المجتمع الدولي، نظراً إلى التوقيت الذي صدرت فيه، إذ إن السودان مُقبل على انتخابات عامة في أبريل/نيسان من العام المقبل وعلى عملية حوار وطني ومفاوضات متعثرة.
ويقول المحلل السياسي والاستاذ الجامعي الطيب زين العابدين لـ"العربي الجديد" إن مجلس الأمن وبعد إحالة ملف دارفور إلى الجنائية الدولية، لم يُقدم على أي خطوات لتحريك الملف بشكل فعلي لانشغاله بقضايا أهم تتطلب اتفاق كافة الأعضاء لا سيما من يملكون حق النقض "الفيتو"، كالأزمة بين أوكرانيا وروسيا، وقضية توسّع تنظيم "داعش"، إضافة إلى الهجمات الإرهابية على مالي.
ويشير إلى أن "ملف دارفور، وبما أن عليه خلافاً، فهم لا يحبذون فتحه، إضافة إلى أن دولاً فاعلة في مجلس الأمن لم تكن مؤيدة للمحكمة الجنائية، ومن بينها الولايات المتحدة، مما يضعف من المحكمة نفسها".
ويعتبر زين العابدين أن قرار الجنائية الأخير سيزيل عبئاً كبيراً عن عاتق الحكومة السودانية، مرجّحاً أن "تكون لدول بعينها يد في القرار، خصوصاً واشنطن التي تقاربت بشكل كبير مع الخرطوم في الفترة الماضية، وترى أن إبعاد البشير عن السلطة عبر حُكم الجنائية سيؤجل تحقيق السلام في السودان".
ويستنتج أن "القرار لطمأنة الحكومة السودانية ولدفعها إلى الموافقة على تسوية شاملة يتحقق من خلالها سلام داخلي تشارك فيه كافة الأحزاب السياسية، ويؤدي لإقرار حكم ديمقراطي".
قرار تجميد القرار شكّل إحباطاً لدى بعض القطاعات السودانية التي تثق في العدالة الدولية والمجتمع الدولي وترى وقف المساءلة بمثابة ضربة قوية من المجتمع الدولي للقضية الإنسانية في دارفور.
لكن الرئيس السوداني رأى في الخطوة فشلاً وتسليماً من قِبل الجنائية، إذ قال خلال فعالية محلية في الخرطوم أمس السبت، إن "هناك من كان يعمد على إذلالنا عبر المحكمة الجنائية، ولكنها اليوم رفعت يدها وقالت إنها فشلت".
وأضاف "ما حصل ليس لأن الرئيس رفض تسليم نفسه، ولكن لأن الشعب السوداني رفض ذلك ووقف ضده وقال إنه لن يُسلّم أي مسؤول سوداني لمحاكم الاستعمار"، معتبراً أن صمود الشعب في وجه الجنائية قاد الأخيرة لإغلاق الملف وإعادته إلى مجلس الامن.
ويرى القانوني والخبير في مجال حقوق الانسان الشريف علي الشريف أن تجميد البلاغ لا يعني إغلاق ملف القضية بشكل نهائي، مشيراً إلى أن هذا الأمر متعلق بإجراء إداري يتصل بالمحكمة.
ويوضح في حديث لـ"العربي الجديد"، أن القرار "لا يعني شطب البلاغ لأنه سيظل مفتوحاً إلى أن يتم تحريكه، وما سيتوقف فقط هو المزيد من التحقيقات حوله".
وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد ذكرت في بيان سابق أن أوكامبو ركّز في تحقيقاته بشأن جرائم دارفور والتي استمرت 20 شهراً، على الأحداث التي وقعت بين عامي 2003 و2004 باعتبارها الفترة الأعنف في الأزمة هناك، وأكد أوكامبو وقتها أنه وللمرة الاولى يجمع أدلة من دون التوجه مباشرة إلى مكان الحدث.
يُذكر أن المحكمة الجنائية الدولية تشكلت في العام 1993، ووقّعت 43 دولة أفريقية على اتفاقية روما التي أُسّست على إثرها هذه المحكمة. ومنذ إنشائها، وجّهت المحكمة تهماً لثلاثين شخصاً ارتكبوا جرائم في ثماني دول أفريقية، وهي الكونغو الديمقراطية، جمهورية أفريقيا الوسطى، أوغندا، السودان، ليبيا، ساحل العاج، مالي، وكينيا.