سيناريوهات الرد الروسي: أوراق بالجملة في أيدي أنقرة وموسكو

26 نوفمبر 2015
لم تكن العلاقات متوترة إلى هذا الحدّ (ياسين بلبل/الأناضول)
+ الخط -
لم تتلق روسيا في تاريخها ضربة قوية من دولة أطلسية كالصفعة التي وجهتها لها تركيا بإسقاط طائرتها فوق الحدود السورية قبل يومين، لتبدو الحادثة بمثابة خطوة كبيرة من أنقرة تحمل رسالة لموسكو مفادها أن لهذه المنطقة قواها الإقليمية، وليست ساحة مستباحة لروسيا المستفيدة إلى أقصى حدّ من الظروف الدولية والتراجع الأميركي من الجبهات الحامية. 

يعتبر العقل الروسي أن الصفعة التركية تستوجب الرد، مهما كلف الأمر، وإلا فستغامر موسكو بفقدان هيبتها الدولية، وهي التي تعمل منذ سنوات، على استعادة هيبة الاتحاد السوفييتي وإن بنكهة يمينية متطرفة، في عدد من المناطق، القريبة والبعيدة، ومنها الشرق الأوسط. إلا أن هذا الرد قد يكون مكلفاً للغاية بالنسبة لموسكو، في ظل الأوراق الكثيرة التي تمتلكها أنقرة، بدءا من حلف شمال الأطلسي، مروراً بحلفاء في الخليج، وانتهاء بعلاقاتها الوطيدة بكتائب المعارضة السورية.

لم تكن العلاقات الروسية التركية متوترة إلى هذا الحد في تاريخها منذ 1945-1953، أي عندما انتهت مدة معاهدة الصداقة السوفييتية التركية، إذ حاول السوفييت حينها الضغط على الأتراك لتعديل شروط معاهدة موتنرو 1936 التي منحت تركيا السيطرة الكاملة على مضائق البوسفور، المنفذ الوحيد لموسكو إلى المياه الدافئة، عبر فتح ملف أراضي شرق الأناضول أي كل من ولاية قارس وأردهان وبيتليس وموش ووان، التي سيطرت عليها تركيا، باعتبارها أراضي تابعة لكل من جمهورية جورجيا وأرمينيا السوفييتين، لتتراجع موسكو عن مطلبها بعد وفاة ستالين كمحاولة لإعادة تطبيع العلاقات مع دول الشرق الأوسط والمعسكر الغربي.


"تركيا، وبالتعاون مع حلفائها ستنشئ قريباً منطقة إنسانية آمنة بين جرابلس السورية وشاطئ المتوسط، لمنع تكرار مأساة إنسانية جديدة ولتوفير فرصة للمهاجرين الذين يُريدون العيش بوطنهم، ومن لا يدعم جهود تركيا في إنشاء منطقة آمنة سيكون شريكاً في تحمل مسؤولية مقتل 380 ألف بريء"، هذا ما قاله الرئيس رجب طيب أردوغان، يوم الثلاثاء، خلال تعليقه على الحادثة، ورغم أن الأخير أكد، في وقت لاحق، أن بلاده لا تريد المزيد من التصعيد مع روسيا، ولكن ذلك يبقى الورقة التركية الأهم، والمدعوم فرنسياً ومن بعض مراكز القوى في الإدارة الأميركية، وأيضاً دول الخليج العربي، إذ إن تسليم كتائب المعارضة السورية المزيد من السلاح النوعي وبالذات صواريخ مضادة للطائرات سيكون، وحده، كفيلاً بالقضاء على النظام السوري وتحويل سورية إلى أفغانستان أخرى لروسيا، وهي التي تعمل جاهدة للحفاظ على آخر قواعدها في المتوسط.

صحيح أن جميع التصرفات والتصريحات الواصلة من موسكو توحي بنبرة عسكرية ملؤها الوعيد والتهديد، لكن الأكيد يبقى أن المواجهة المباشرة تبدو مستبعدة جداً، وتظهر حرب الوكالة في كل من سورية والعراق من أهم الخيارات المطروحة لتصفية الحسابات. رغم ذلك، لا يزال هناك العديد من مناطق الاشتباك التي يمكن أن تدور الحرب الروسية التركية بالوكالة فيها، ويأتي على رأسها تفعيل الأزمة بين أذربيجان (حليفة تركيا) وأرمينيا (حليفة موسكو) في إقليم نيكورنوكارابخ المتنازع عليه، وأيضا ملف الطاقة في المتوسط، عبر تفعيل تحالف إسرائيلي مصري قبرصي مرة أخرى، أو في البلقان وبالذات في البوسنة والهرسك وبالتالي الانقلاب على معاهدة دايتون، لكن ذلك سيعني إدخال الحلف الأطلسي بشكل مباشر، لأنها ستكون ضربة للخاصرة الألمانية وأوروبا الغربية بالعموم.

اقرأ أيضاً: تركيا وروسيا..إسقاط طائرة عسكرية يهدّد مشاريع الطاقة والسياحة

بدأت موسكو باتخاذ أولى تدابير الرد بالفعل؛ بعد الإعلان عن قطع العلاقات الروسية ــ التركية العسكرية، أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بأن بلاده ستقوم بنصب نظام الدفاع الجوي إس 400 في مطار حميميم في اللاذقية، كما أعلنت هيئة الأركان الروسية عن إرسالها لسفينة حربية إلى ميناء المدينة، وبالتالي ستصبح المقاتلات التركية، نظرياً، حتى وهي داخل الأجواء التركية، ضمن دائرة الأهداف. لكن أغلب الظن أن روسيا تدرك أن تركيا ليست "جمهورية موز" يمكنها أن تقفل مجالها الجوي متى شاءت مثلما فعلت مع لبنان أو العراق لناحية كردستان أخيراً، بل دولة أطلسية استهدافها هو، نظرياً، بحسب الميثاق التأسيسي للحلف، بمثابة ضرب واشنطن أو بروكسل أو باريس.

يرى كثيرون أن الورقة الكردية تبقى قوية للغاية بيد روسيا في نواياها ضد تركيا. تُعتبر روسيا من الدول الكبرى القليلة المتبقية، إلى جانب كل من الهند والصين، التي لم تضع حزب العمال الكردستاني على لائحة التنظيمات الإرهابية، وفي ظل العلاقات الجيدة التي تجمعها بحزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السوري للعمال الكردستاني). قد تعمل موسكو على التخلي عن تحفظاتها في التعامل مع "الكردستاني"، وبالتالي دعمه داخل سورية أو تركيا حتى، وقد تعود إلى سياستها في التسعينات عندما كان معسكر سولينجنوي بالقرب من مدينة ياروسلافل الروسية، من أهم مواقع تدريب العمال الكردستاني ومعالجة جرحاه، حيث من الممكن إعادة دعمه بالتعاون مع طهران التي تعتبر أحد أهم حلفاء الأخير حالياً، بدليل رعايتها أخيراً اتفاقاً بينه وبين مليشيات الحشد الشعبي في العراق. يعني ذلك أن حزب عبد الله أوجلان قد يستغل الظرف الحالي من التوتر التركي الروسي لتنفيذ أجندته سواء في سورية أو في إقليم كردستان العراق، الذي يعد رئيسه مسعود البارزاني من أهم حلفاء أنقرة، ويعاني من توتر كبير في العلاقة مع العمال الكردستاني، الذي بات يصارع الإقليم على السيطرة في جبل سنجار. لكن في ظل هذا الاحتمال، يُطرح خطر اضطرار "الكردستاني" إلى التخلي عن علاقته بالتحالف الدولي ضد "داعش" بقيادة الإدارة الأميركية، ما سيعني خسارته لشرعية محاربة التنظيم بالنسبة لواشنطن، وبالتالي تحوله إلى هدف تركي سهل في سورية. ورقة أخرى بيد روسيا يختصرها كثيرون باحتمال أن تعمد إلى استخدام القوقازيين المتواجدين في تركيا حيث تمتلك الكثير من العلاقات الاستخباراتية معهم.

أما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الرد الروسي سيكون عبر الملف الاقتصادي، كما لوح رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيدف، يوم أمس، فإنه لا يبدو واقعياً، لأن الخسارة الروسية ستكون هي الأكبر، نظراً للميزان التجاري بين البلدين، وفي ظل الوضع السيئ الذي يعاني منه الاقتصاد الروسي، إذ تميل الكفة في حجم التبادل التجاري، الذي يبلغ حوالي 32 مليار دولار إلى صالح روسيا، التي تصدر ما يقارب الـ 21 مليار دولار منه إلى تركيا، خصوصاً من الغاز، لذلك يستبعد معظم الخبراء أن تقوم روسيا بقطع هذه الإمدادات. لكن يبقى مشروع خط "السيل التركي" (ساوث ستريم) المتعثر والذي يعتبر ذا أهمية استراتيجية بالنسبة للبلدين، من أهم المشاريع التي قد يتم العمل على إيقافها، والذي تبلغ قيمته 16 مليار دولار، وهو ما سيضرّ بشكل أساسي بالاقتصاد الروسي، لأن التعويل عليه كبير بأن يكون المعبر الأساسي للغاز إلى أوروبا للالتفاف على أوكرانيا. وما الخطوة الأخيرة التي أعلنت أمس، بوقف تصدير الغاز الروسي إلى أوكرانيا، سوى تعبير عن المأزق الروسي في تصدير سلعته التي ينهض عليها الاقتصاد الروسي.

وبينما تبدو الاستثمارات التركية في روسيا من أهم المتأثرين بالأزمة الجديدة، إلا أن حجمها ليس ضخماً، إذ لا تتجاوز قيمتها 1.5 مليار دولار، بينما لا يزيد حجم الاستثمارات الروسية في تركيا الـ300 مليون دولار، هذا من دون الحديث طبعاً عن مشروع مفاعل أك كويو النووي.

وبعدما قامت روسيا بوقف السياحة الروسية إلى تركيا، وبالتالي تعريض القطاع السياحي التركي لخسائر كبيرة بعد فقدانه لأكثر من 3 ملايين سائح روسي، فإن تركيا قد توقف بدورها مشروع أك كويو النووي الذي تنفذه روسيا وتقدر قيمته بأكثر من 22 مليار دولار، بما أنه المفاعل النووي الوحيد لروسيا في العالم.

اقرأ أيضاً سورية: غارات روسية على ريفي حلب والرقة
دلالات
المساهمون