اقرأ أيضاً: رحيل آخر قادة ثورة التحرير يجمّد الحياة السياسية بالجزائر
قبل حسين آيت أحمد الذي هاجمته السلطة بعنف في العقدين الأخيرين عبر الصحف والنخب الموالية، كانت الجزائر قد خسرت الهاشمي شريف، أبرز قيادات اليسار في الجزائر، والذي توفي في صمت، وتعرّض بدوره، لحصار سياسي بسبب مواقفه الرافضة لما كان يعتبره سياسات الريع التي تنتهجها السلطة. وقبل ذلك بثلاثة أعوام، توفي الأمين العام السابق لحزب "جبهة التحرير الوطني"، عبد الحميد مهري، والذي يعدّ من أبرز الشخصيات التي نقلت الحزب التاريخي من بوتقة الاستغلال السياسي من قبل السلطة الى التحرر الفكري والسياسي، ودفعه ذلك الى التقاطع مع قوى المعارضة التي رفضت انقلاب الجيش على المسار الانتخابي عام 1992. غير أن مواقفه هذه أغضبت المجموعة الحاكمة التي كان الجيش والاستخبارات الفاعل الرئيسي فيها، فدبّرت له انقلاباً داخل الحزب، حيث حوصر سياسياً حتى وفاته. كما تعرض مؤسس تيار الإخوان المسلمين في الجزائر، محفوظ نحناح، الى إقصاء سياسي عنيف عام 1999، رغم مواقفه اللينة إجمالاً تجاه السلطة، وخيارات نظام الحكم منذ عام 1994، تحت شعار مشروعية الحفاظ على الدولة المركزية. كما تعرّض محمد مشاطي، أحد أعضاء مجموعة الـ 22 التي فجرت ثورة التحرير، الى مواقف عنيفة بسبب انتقاده لسياسات السلطة، ورفضه ترشح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة.
لم يدفع هذا الجيل السياسي ثمن مواقفه عنفاً سياسياً فقط، لكن كوادر وشخصيات مهمة وذات تأثير تاريخي في مسار الحركة الوطنية في الجزائر قبل وبعد الاستقلال، تعرضت للتصفية بسبب مواقفها المعارضة؛ فمحمد خيضر، عضو المجلس الوطني للثورة الجزائرية، قتل في مدريد في ظروف غامضة في يناير /كانون الثاني 1967. كما تعرض كريم بلقاسم، عضو مجموعة الستة التي فجرت ثورة التحرير، وأبرز كوادر الوفد المفاوض لفرنسا بشأن استقلال الجزائر، الى الاغتيال في فرانكفورت في أكتوبر/تشرين الأول عام 1970، بسبب مواقفه المعارضة لنظام الرئيس بومدين. فيما تعرض محمد بوضياف، الذي ظل في المنفى من الستينيات، ثم استدرجه الجيش ليرأس المجلس الأعلى للدولة عام 1992، الى الاغتيال السياسي في يونيو /حزيران 1992 في ظروف دامية.
لكن رحيل آيت أحمد الأربعاء الماضي في لوزان السويسرية، شكل صدمة سياسية وأعاد حالة من الإجماع السياسي المفقود منذ فترة في الجزائر، حيث تشكل اجماع سياسي على وطنية المواقف السياسية للراحل، وعلى معارضتة لتوجهات السلطة منذ الستينيات، واعتراف مسؤولين في الدولة كانوا ضمن المنتقدين للرجل في العقد الماضي، وقادة أحزاب الموالاة، بما تعرض له من ظلم سياسي واقصاء، دفع في الوقت نفسه الى ضرورة إحداث مراجعة للسلطة على مختلف مستوياتها السياسية والتنفيذية.
ويرى الكاتب والناشط السياسي عبد العزيز غرمول، أن منظومة الحكم التي تداولت عل السلطة في الجزائر، انحازت الى خيار الإقصاء، وفوتت على البلاد فرصة الاستفادة من التنوع والثراء السياسي، الذي كان يمثله الجيل السياسي الراحل، معتبراً أن عقل السلطة السياسية في الجزائر "والذي لا يستطيع أن يتسع لرموز مختلفة من نوع عبد الحميد مهري ومحفوظ نحناح وحسين آيت أحمد، هو عقل لم يفهم بعد هذا التنوع الثقافي الكبير الذي تحظى به الجزائر؛ التنوع في الفكر المختلف والمتناقض أحياناً، والرؤية المتعددة الأبعاد، واختلاف المشارب في الجزائر". وأضاف "في اعتقادي أن ما يجمع مثل هؤلاء الرجال هو حب الجزائريين لهم لسبب واضح، يتمثل في أن كلاً منهم خدم الجزائر بالأفكار والأدوات والمواقع التي توفرت له في ظروف معينة، وأنهم وضعوا خدمة الجزائر قبل خدمة مصالحهم الخاصة، وقضوا عمرهم في خدمة الجزائريين ولذلك ظلوا أحياء وممجدين في ذاكرة فئات واسعة".
ويجمع المراقبون في الجزائر على أن المسار السياسي في البلاد شابته ممارسات خطيرة ضدّ إنجازات النخب السياسية، تمثلت في الحملات الإعلامية والسياسية التي شنت ضدّ أمثال حسين آيت أحمد وعبد الحميد مهري ومحفوظ نحناح وشخصيات أخرى، كان لها مواقف معارضة للسلطة في مراحل مختلفة. وفي هذا السياق، يؤكد الأستاذ الباحث محمد بغداد أن "ما يميز تاريخنا الحديث، تلك الممارسة الخطيرة، المتمثلة في الحرب الضروس التي تشنها النخب (المغشوشة) ضدّ الذاكرة الجماعية، وتصوب سهامها القاتلة تجاه إنجازات الشخصيات التاريخية، وهي السلوكيات الناتجة عن عطالة انتاج المؤسسات المعرفية والثقافية".
اللافت أن حالة اليقظة السياسية التي أنتجتها وفاة حسين آيت أحمد، قد توفر مناخاً جدياً لوضع حدّ للسلوك الاقصائي للسلطة، كما تفتح النقاش حول ضرورة إحداث مراجعات جدية في الموقف من أطروحات الصف المعارض وتصحيح المسار التاريخي واعادة الاعتبار الى جيل سياسي تعرض للإقصاء والتشويه.
اقرأ أيضاً: جنرالات الجزائر في قبضة القضاء: تصفية حسابات سياسية؟