أما الاعتداء الأبرز والذي فشلت هذه الحركة الإرهابية في تنفيذه، ولكنه كان على رأس أجندتها، فكان تفجير قبة الصخرة المشرفة في القدس. وكان من بين المتهمين الرئيسيين في ذلك الاعتداء المستوطن يهودا عتصيون (64 عاماً)، والذي كان أحد الناشطين الثلاثة البارزين في تأسيس "الحركة السرية اليهودية".
اكتُشفت الحركة في الليلة التي كانت تحاول فيها تفخيخ حافلات فلسطينية شرقيّ القدس المحتلة، واعتقلت شرطة الاحتلال ما يزيد عن 20 مشتبهاً إسرائيلياً، من بينهم عتصيون. خلال مثوله أمام المحكمة الإسرائيلية، قال عتصيون مفتخراً بنيّته استهداف المسجد الأقصى: "استغرق العمل ضد رؤساء البلديات شهراً واحداً من حياتي. الأفكار، الاستعدادات، التأملات، والأفعال التي قمت بها من أجل الجبل (جبل الهيكل)، أخذ سنوات من عمري".
في حينها اعتبر عتصيون أن استهداف المسجد الأقصى أمر ذو أولوية لدى "الحركة السرية اليهودية"، وبتعبير أعضائها فإن "الهدف الحقيقي لإقامة الحركة هو إزالة المساجد من على جبل الهيكل وتطهيره لأجل بناء الهيكل الثالث". وبسبب عضويته ونشاطه في الحركة السرية اليهودية، حكمت محكمة الاحتلال على عتصيون في العام 1984 بالسجن 7 سنوات، و3 سنوات تحت وقف التنفيذ.
وقد عاد اسم عتصيون إلى الأخبار، بعد أن سمحت له شرطة الاحتلال في الخامس عشر من شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي باقتحام المسجد الأقصى، بعد أن منعته من ذلك لما يقارب 30 عاماً، لم تسمح له خلالها باقتحامه إلا مرة واحدة في العام 2003. وبحسب ما ورد في الإعلام الإسرائيلي، فإن عتصيون التقى أحد الضباط الكبار في شرطة الاحتلال الذي "أعطاه الإذن" باقتحام المسجد الأقصى بشرط الالتزام "بتعليمات الشرطة"، وذلك تزامناً مع قيام شرطة الاحتلال بإبعاد الكثير من الفلسطينيين عن الأقصى وتخفيف التواجد العربي فيه.
ويُعتبر عتصيون من الشخصيات الأساسية في تيار الصهيونية الدينية، وكان من أهم المساهمين في دعم النشاط الاستيطاني في أراضي الضفة الغربية بعد احتلالها عام 1967، إذ شارك في العام 1975 في تأسيس مستوطنة "عوفرا" شمال شرقي رام الله، والمقامة على أراضي قريتي عين يبرود وسلواد، والتي كانت في حينه أول مستوطنة تقام شمالي الضفة الغربية، ومن أهم المستوطنات التي يدرس فيها مؤيدو التيار الصهيوني الديني، وما زال عتصيون يسكن فيها حتى اليوم.
ومنذ إطلاق سراحه وحتى اليوم، لم يغب استهداف المسجد الأقصى عن مخيلته وعن جدول أعماله. فقد أقام عتصيون وترأس في سنوات التسعين جمعية استيطانية، تُعتبر إحدى الجمعيات الاستيطانية الأولى في العمل على استهداف المسجد الأقصى، وتدعى جمعية "حاي فيه كيام"، أي "حيّ وموجود". وقد نشطت هذه الجمعية بحسب التعريف الموجود عنها على صفحات الانترنت في العمل من أجل ضمان "حق اليهود في الصّلاة في جبل الهيكل"، على حد تعبيرها.
وكانت هذه الجمعية تقف بالمرصاد لأي نشاطات فلسطينية داخل المسجد الأقصى، فقد قامت في العام 1996 بالشراكة مع جمعية "أمناء جبل الهيكل"، بتقديم التماس لدى المحكمة الإسرائيلية العليا ضدّ كل من الأوقاف الإسلامية في المسجد الأقصى، وضدّ الحكومة الإسرائيلية، والمستشار القضائي للحكومة، والشرطة الاسرائيلية، والوزير الإسرائيلي لشؤون الأديان، تطالب فيها بوقف أعمال الترميم والصّيانة داخل المصلى المرواني الذي كان قد افتتح حديثاً حينها.
وقد ادعت الجمعيتان في التماسهما للمحكمة، بأن أعمال الترميم هذه تُشكّل "خرقاً للقانون الإسرائيلي المسمى قانون الحفاظ على الأماكن المقدسة". وبحسب الجمعيتين، فإن ترميم وصيانة المصلى المرواني تهدف إلى تحويله مسجداً للمسلمين، وفي هذا ضرر "لمشاعر اليهود الدينية"، و"خطوة نحو طمس علاقة اليهود بجبل الهيكل"، بحسب تعبيرهما.
وقامت المحكمة الإسرائيلية العليا حينها بردّ الالتماس ولم تتدخل في أعمال الصيانة داخل المصلى المرواني، إلا أن جمعية "حاي فيه كيام" التي يشرف عليها عتصيون، لم يهدأ لها بال، فعادت وطالبت بـ"حق وصول اليهود إلى داخل المصلى المرواني"، كما قدّمت التماساً آخر في العام 1997 ضد قيام الأوقاف الإسلامية بترميم وتبليط سطح المصلى المرواني.
اقرأ أيضاً: التنظيمات الإرهابية اليهودية: تاريخ حافل بالاعتداءات والإفلات من العقاب
على صعيد آخر، لم يهدأ عتصيون وجماعته فيما يخص مطالبهم باقتحام المسجد الأقصى، فقد قام في سنوات الانتفاضة الثانية برفقة عضو حزب "الليكود" موشيه فيجلين بالاعتصام أمام باب الأسباط قرب المسجد الأقصى محتجين على منع شرطة الاحتلال المستوطنين من اقتحامه، إذ كان هذا المنع سارياً حينها بعد اقتحام رئيس حكومة الاحتلال حينها أرييل شارون المسجد الأقصى لمدة عامين على الأقل.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2001، توجّه عتصيون وتسعة أعضاء آخرين من حركة "حاي فيه كيام" للاعتصام أمام مزرعة شارون قرب مستوطنة سديروت في النقب الغربي، وذلك احتجاجاً على إغلاق المسجد الأقصى بوجه المستوطنين منذ اندلاع الانتفاضة. وقد منعت شرطة الاحتلال يومها، بتوجيه من جهاز "الشاباك"، إقامة ذلك الاعتصام.
وبعد أن سمحت له شرطة الاحتلال منتصف الشهر الحالي باقتحام المسجد الأقصى لأول مرة منذ سنوات طويلة، قامت في 22 من الشهر باعتقاله من داخل المسجد لأنه "كان يرفع يديه إلى السماء"، في إشارة إلى محاولته الصلاة داخل المسجد. في ذلك اليوم، طلب منه أحد أفراد شرطة الاحتلال أن يرافقه إلى خارج المسجد، ولكنه رفض "لأن الشرطي لم يوضح له سبب تلك المرافقة" بحسب تصريحه للإعلام الإسرائيلي. في نهاية المطاف، وبعد عدم استجابته قام أربعة أفراد من شرطة الاحتلال بحمله من يديه ورجليه وإجباره على الخروج من المسجد واعتقاله. في نهاية ذلك اليوم أفرج عن عتصيون، ومن ثم عقدت له محكمة في اليوم التالي طالبت فيها شرطة الاحتلال بإبعاده عن الأقصى لمدة 15 يوماً، وقد وافقت محكمة الصلح على ذلك، إلا أن عتصيون رفض التوقيع على "أمر الإبعاد" معتبراً ذلك اعترافاً ضمنياً بأنه "مذنب". وعقب استئنافه على هذا القرار في المحكمة المركزية، أصدر قاضيها قراراً بإبطال "أمر الإبعاد" منتقداً تصرف شرطة الاحتلال ومعتبراً أنه "يمكن لليهود أن يرفعوا أياديهم إلى السماء داخل الأقصى".
وسبق أن هاجم عتصيون الحاخامات الذين أطلقوا نداءً على شكل فتوى تمنع اليهود من دخول المسجد الأقصى، وذلك في أعقاب اندلاع هبة القدس وارتفاع وتيرة عمليات الدهس والطعن ضدّ المستوطنين، متهماً إياهم أنهم يضعون بذلك أياديهم في أيدي "أعدائنا العرب ويحللوا دماءنا". وقال عتصيون في مقال نشره في جريدة "ملحق السبت" الدينية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إن وراء هذه الدعوة من قبل الحاخامات تقف الرغبة في "تشتيت اليهود من أرض إسرائيل وليس فقط من جبل الهيكل".
واعتبر عتصيون في ذلك المقال، أن هؤلاء الحاخامات "صادقون في قولهم بأن بناء الهيكل لن يتم عبر إراقة الدماء والحروب، وأنه سيُبنى في أوج عملية نضوج داخلي، ونتيجة صراع طويل مع المعارضين (يقصد العرب)، ولكن هؤلاء الحاخامات يتلاعبون بالحقائق وبدلاً من توجيه الاتهامات للعرب يوجهونها لليهود الصاعدين إلى جبل الهيكل".
ويحاول عتصيون الإيحاء بأنه "ينبذ العنف"، إذ تستضيفه بعض وسائل الإعلام الإسرائيلي ليدين أعمال المستوطنين وخصوصاً مجموعة "تدفيع الثمن"، كما أنه أنهى مقاله بملاحظة تقول إنه لم يتطرق لمحاولته وخطته لتفجير قبة الصخرة، لأن ذلك ليس المكان لهذا الحديث، بحسبه. بالنسبة له، يجب أن يهدم الأقصى في يوم ما، ليحل محله الهيكل الثالث وصولاً إلى الخلاص للشعب اليهودي، ولكنه يرى أن ذلك سيأتي تدريجياً ومن دون تفجير مقصود.
أما عن محاولته تفجير قبة الصخرة في الثمانينيات، فقد كان جزء من هذه الخطة متأثراً بعملية السلام مع مصر وخطة الانسحاب الإسرائيلي من سيناء، والتي رأى فيها عتصيون ومؤيدوه خطوة للوراء في مسيرة الصهيونية. وكان صاحب الفكرة الرئيس لتفجير قبة الصخرة الحاخام يشوعا بن شوشان، والذي أثّر على عتصيون ودعاه إلى تبني الفكرة.
وفي مراجعة لكتابات إسرائيلية وتوثيقية لنشاط "الحركة السرية اليهودية"، فقد عرّف عتصيون مهمة تفجير قبة الصخرة بالقول إنها "عملية تطهير جبل الهيكل من سيطرة الإسلام من أجل جلب الخلاص الشامل وإقامة مملكة إسرائيل الآمنة". وكان عتصيون يؤمن بأنه في بداية عمل الحركة السرية يجب عدم استهداف رؤساء البلديات من قبل الأعضاء البارزين للحركة، وإنما يجب البحث عن آخرين يقومون بهذه المهمة عنهم، خوفاً من انكشاف أمرهم وبالتالي تعطيل المهمة الأهم برأيه تفجير قبة الصخرة. في نهاية الأمر اقتنع عتصيون أنه من الصعب الاعتماد على آخرين، ولكنه على الرغم من مشاركته في التخطيط محاولة اغتيال رؤساء البلديات إلا أنه لم يأخذ دوراً فعالاً فيها، إيماناً منه بأنه يجب أن لا يخاطر بالمشاركة الفعالة في هذه العملية حتى يكون مشرفاً على "عملية تطهير جبل الهيكل" التي تفوق الاغتيال بمرات أهمية.
وحسب الباحث الإسرائيلي نداف شرجاي، فإن عتصيون كان يقلّل من أية ردة فعل قد تنتج بعد تفجير قبة الصخرة، ويقول إن كل ما سيصدر عن الجهات العربية والدولية سيبقى في إطار التصريحات فقط، وذكر مثالاً على ذلك الحريق الذي أشعله المستوطن الاسترالي في الجامع القبلي عام 1968، قائلاً: "عندها أصيب الكثيرون بالهستيريا وكانوا متأكدين من أن كل الدول العربية ستخرج للحرب علينا، ولكن كما نعرف لم يحدث أي جهاد ضدّنا".
مخطط تفجير قبة الصخرة الذي لم يُنفذ واعتقل عتصيون ورفاقه قبل تنفيذه، أُعد له على مراحل، فقد قام عتصيون على سبيل المثال بزيارة وحدة الآثار في الجامعة العبرية واستعان بدراسة فيها عن هندسة قبة الصخرة وبنائها، من أجل معرفة كمية المتفجرات اللازمة لإيقاع القبة أرضاً. وفي إحدى المرات، اكتشف أحد حراس الأوقاف اثنين من عصابة عتصيون كانوا يحاولون تسلق السور الشرقي للمسجد الأقصى في ساعات الليل المتأخرة في جولة استكشافية للمكان، إلا أنهم استطاعوا الهرب برفقة عتصيون الذي كان ينتظرهم في سيارته قبل أن تصل إليهم شرطة الاحتلال.
فيما بعد، أفرج عن الكثير من أعضاء "الحركة السرية" بعفو من قِبل رئيس دولة الاحتلال، وخففت أحكام بعضهم، إلا أن عتصيون كان الوحيد الذي رفض أن يطلب العفو من رئيس الدولة، لأنه لم يكن مستعداً للتراجع عن أفكاره، أو أن يُعبر عن ندمه.
اقرأ أيضاً: خريطة المنظمات اليهودية الساعية إلى تدمير الأقصى وتدشين "الهيكل"