وتصرّ تلك الأحزاب على موقفها الرافض، على الرغم من أنها تتمتع بعلاقة وطيدة مع حزب "البعث" السوري، وهي تلقى دعماً جزئياً من الأحزاب الكردية على إبقاء قانون "اجتثاث البعث"، الذي يحرم مئات الآلاف من قيادات "البعث" العراقي من درجة عضو فرقة إلى أعلى، من ممارسة الحياة السياسية.
غير أنّ تعنُّت الأحزاب الشيعية في هذا الإطار اتّسم بالليونة أخيراً، بعد أحداث العاشر من يونيو/ حزيران الماضي وسقوط مدينة الموصل وسيطرة فصائل مسلحة سنية مختلفة على مساحات شاسعة من البلاد. فقد تسرّبت معلومات من داخل غرف المفاوضات بين الكتل السياسية تتمحور حول إمكانية تعديل قانون "اجتثاث البعث"، وإناطة الموضوع بقضاة مستقلين بدلاً من إبقاء الموضوع بيد الأحزاب الشيعية نفسها. أحدث المؤشرات جسّدها تصويت الحكومة العراقية، في 27 من يناير/كانون الثاني الماضي، على "إعادة النظر ومناقشة قانون اجتثاث البعث المعروف باسم قانون المساءلة والعدالة بالتشاور مع اللجنة الأمنية الوزارية"، ليكون قرار الحكومة أول خطوة تتخذ رسمياً في هذا الإطار منذ تشريع القانون في سبتمبر/أيلول 2003 من قبل الحاكم المدني للعراق آنذاك بول بريمر.
القرار الحكومي سبقه تصريح لرئيس الجمهورية فؤاد معصوم لوسائل إعلام محلية عراقية وكردية أكد فيه يؤيد إلغاء قانون المساءلة والعدالة وإحالة ملفاته على القضاء. وتعليقاً على الخطوة الحكومية الجديدة، قال القيادي في "التحالف الوطني" الحاكم، مجيد الجوراني، إن "القانون سيكون في أفضل حالات تعديله محصوراً بآلية قضائية لا سياسية كما كان الحال في السابق، أي أن القضاء سيكون فيصلاً في وضع أعضاء وقيادات حزب البعث"، شارحاً أن المعيار سيكون "مدى تورطهم سابقاً بعمليات ضد العراقيين".
وحول التعديلات المتوقعة للقانون، يوضح القاضي سلام أحمد، مستشار مركز بغداد للدراسات الاستراتيجية لـ"العربي الجديد"، أنه "سيكون هناك تعديل واحد فقط وهو سحب الملف بالكامل من البرلمان والحكومة عبر هيئة اجتثاث البعث، وتحويله إلى القضاء، وهو أمر كفيل بإرضاء معارضي القانون الذين كانوا يرون في آلية التنفيذ استهداف طائفي وحزبي".
ويعتبر ملف "اجتثاث البعث" وإلغاء قانونه أو تعديله، أحد أبرز المطالب السنية في المحافظات الست، وهي الأنبار، وصلاح الدين، ونينوى، وديالى، وكركوك، فضلاً عن المناطق ذات الغالبية السنية في بغداد. وعلى ما يبدو، فإن الانهيار الأمني الأخير، وبروز تنظيم "جيش الطريقة النقشبندية"، التابع لحزب "البعث"، كقوة مؤثرة في الساحة العراقية، والذي يتزعمه نائب الرئيس العراقي السابق، عزة الدوري، دفع بالملف إلى طاولة المفاوضات والحوارات مجدداً. وتدعم الولايات المتحدة الأميركية المطالب السنية بشكل مباشر لكونها تعتبرها الباب الرئيس لدخول البلاد إلى حالة الاستقرار، وعزل المجتمع السني عن تنظيم "الدولة الإسلامية"، (داعش)، الذي تعتبره الخطر الأكبر الذي يهدد البلاد.
إلا أنّ إزالة القيود أمام عودة "البعث"، أو إلغاء العقوبات عنه على أقل تقدير بشكل يؤهله للعودة إلى الحياة السياسية، لا يمكن أن يمرّ بسهولة بدون عوائق، وقد تمتد إجراءات ذلك لشهور طويلة مقترنة بعدة عوامل على الأرض، منها ما يهدد بإجهاض هذا المشروع بشكل كامل.
ويقول القيادي في "التحالف الوطني"، حسين البصري، لـ"العربي الجديد"، إنّ "عودة حزب (البعث) ككيان كما كان، أمر مستحيل، لكن يمكننا مناقشة تعديل القانون ورفع الحظر عن شخصيات معينة فيه، للمشاركة في الحياة السياسية، فضلاً عن إناطة الملف بالكامل إلى القضاء وعدم ربطه بالشأن السياسي ورغبة الأحزاب". ويوضح أن "الفكر لا يمكن أن يجتث كما أي شيء آخر، وحزب (البعث) حكم العراق 35 عاماً ولا يمكن نسيان ذلك".
وترى الأحزاب التي تقدم نفسها على أنها سنية، أنّ موقف "التحالف العراقي"، المتمسك بقانون "اجتثاث البعث"، يهدف إلى الاستئثار بالسلطة. وفي ظل بقاء المحاصصة الطائفية السياسية الحالية، فمن الممكن أن يهدّد حزب "البعث" نفوذ الأحزاب "الشيعية" في مناطق قوتها، وخصوصاً أنّه يتمتع بقاعدة شعبية في الجنوب، وذلك بعد فشلها في تحقيق ما وعدت به، ومقارنة العراقيين المستمرة بين حكم حزب "البعث" السابق، وحكم تلك الأحزاب بعد 2003، والفارق الواضح في الخدمات والأمن ونسبة الفساد المالي والإداري.
وقد لوحظ هذا الوضع خصوصاً في الدورة الانتخابية الماضية، عندما فاز محافظ كربلاء السابق إبان نظام الرئيس الراحل صدام حسين، يوسف الحبوبي، بالغالبية المطلقة بتلك الانتخابات، ورغم ذلك مُنع قضائياً من تولي منصب تنفيذي في تلك المحافظة.
وفيما يضم البعث في صفوفه أعضاء من كل الطوائف، يبقى خصومه يصفونه بالفكر القمعي الإقصائي والديكتاتوري، الذي لا يؤمن بالشراكة في الدول التي يتولى الحكم فيها. وفي هذا السياق، يبرز المتحدث باسم حزب "البعث" الحالي، خضير المرشدي، وهو شيعي يتحدّر من محافظة بابل، حيث تأسس حزب "الدعوة الاسلامية" الحاكم.
ويقول القيادي في "الحراك السني" العراقي، أحمد الجبوري، لـ"العربي الجديد"، إن "قانون (اجتثاث البعث) بات مقصلة إعدام لكل معارضي الحكم في العراق اليوم؛ فهو قانون قابل للتأويل، يتم إقصاء أي شخص تحت طائلته، ولا يشمل إلا العرب السنّة، رغم أن نصف أعضاء حزب (البعث) هم من الشيعة".
ويضيف الجبوري: "نريد جعله ملفاً قضائياً تتم من خلاله محاسبة شخصيات (بعثية) إن ثبت تورطها بقتل أو سجن عراقيين أبرياء كما يقولون. لكن القانون، (اجتثاث البعث)، تحول لاجتثاث السنّة، كما حدث مع نائب الرئيس العراقي السابق، طارق الهاشمي، النائب السابق في البرلمان، عبد الناصر الجنابي، ووزير المالية السابق، رافع العيساوي، وهم أبرز رموز السنّة المعارضين لرئيس الوزراء المتنحي، نوري المالكي".
وتعرّض حزب "البعث" لانشقاق كبير في العام 2007 خلال مؤتمر عُقد في دمشق برعاية النظام السوري. فقد أعلن اكثر من ألف عضو قيادي فيه خلع عزة الدوري من منصب أمانة سر الحزب، الذي هاجم نظام الرئيس بشار الأسد، في أكثر من مرة.
وأعلنوا خلال المؤتمر عن تنصيب القيادي البارز في الحزب من الأصول الجنوبية، يونس الأحمد، أميناً عاماً للحزب.
لكن هذا الانشقاق لم يشمل أعضاءه الموجودين في العراق. وسرعان ما اضمحلّ جناح الأحمد، وتلاشى في ما بعد مع اندلاع الثورة السورية وضعف اهتمام النظام السوري بهذا الجناح، ولم يعد سوى ظاهرة إعلامية.
لكن في المقابل، قام الحزب الأم بإعادة تشكيل صفوفه على شكل خلايا في بغداد ومدن شمال وغرب العراق، وأعلنت وزارة الداخلية العراقية في بيان، مطلع العام الجاري، عن وجود خلايا له في مدن جنوب ووسط البلاد وبكثرة "تسعى لإعادة ترتيب صفوفها".
ونفذ جناح الحزب العسكري، المتمثل بـ"جيش الطريقة النقشبندية"، سلسلة عمليات كبيرة خلال الفترة الأخيرة، وهو يسيطر اليوم على عدد من المدن الشمالية، ويحظى بعلاقة أقل ما يقال عنها إنها اعتيادية مع تنظيم "الدولة الإسلامية".
يقول القيادي في حزب "البعث" العراقي، مجيد شهاب، لـ"العربي الجديد"، إنه "لا علاقة مباشرة مع تنظيم الدولة الإسلامية؛ نحن لا نلتقي معه، لا فكراً ولا منهجاً. نحن حزب علماني عربي، لكنّ الهجمة التي يتعرّض لها العراق لخلعه من بيئته العربية، تجعلنا مضطرين للاتفاق معه في مسألة قتال هذا المشروع الكبير في البلاد".
ويضيف أن "البعث يقاتل حالياً، عسكرياً وسياسياً، ليس من أجل العودة إلى السلطة، بل للتصدّي لمشروع صفونة العراق".
تفيد مصادر حزب "البعث" العراقي، اليوم، بأن عدد أعضاء الحزب يناهز المليون و300 ألف عضو.
ويرى مراقبون أن اجتثاث هذا العدد المهول من العملية السياسية وحرمانهم من الوظائف أو المرتب التقاعدي، يعني وجود أكثر من خمسة ملايين عراقي مهمّشين وعرضة للفقر وإيجاد الدافع لهم للانخراط في الجماعات المسلحة، وخصوصاً أن متوسط عدد أفراد الأسرة العراقية هو خمسة أشخاص.
لكن الأحزاب ذات الغالبية الشيعية اليوم، تشترط عدداً من النقاط لتوافق على تعديل "الاجتثاث"، أبرزها إعلان الحزب عن مراجعة شاملة، وطرد الرموز "المتورطة بدماء العراقيين" مع عدم عودة كلية للحزب إلى العمل السياسي باسمه القديم، "حزب البعث العربي الاشتراكي"، وأن يسمح لشخصيات الحزب بالترشح إلى الانتخابات ودخول البرلمان والتنافس على الوظائف الرسمية، شرط أن يكون وضعه القضائي سليماً.
مواقف إقليمية
عودة "البعث" العراقي إلى واجهة الأحداث ورفع الحظر عنه بشكل جزئي، وهو المرجح حتى الآن، لا يمكن أن يكون قراراً داخلياً فقط، بل هو مرتبط بسلسلة معقدة تتشابك مع تاريخ الحزب وعلاقته بدول المنطقة.
تسعى الإدارة الأميركية إلى تنفيذ المطالب السنيّة لمنح حكومة حيدر العبادي الشرعية اللازمة في مواجهة (داعش) وضمان إيقاف الاحتقان الطائفي في البلاد. وهي تهدف من وراء ذلك إلى إرسال برقية مباشرة لرموز حزب "البعث" السوري، مفادها بأن تخليهم عن الرئيس بشار الأسد، لا يعني تهديد مستقبلهم السياسي، وأنهم سيمنحون أنفسهم فرصة بقاء الحزب من دون تهديد وجودهم. غير أن الموقف الإيراني والكويتي المتزمت من عودة حزب "البعث" أو الاعتراف به، سيكون عائقاً كبيراً في طريق عودة الحزب، وخصوصاً أن الكويت اعتبرت الحزب منظمة إرهابية عقب غزو صدام حسين لها عام 1990.
أما إيران، فتجد في عودة الحزب تهديداً لأمنها ومصالحها داخل العراق، خصوصاً مع استمرار الحزب برفع شعاري "القادسية" و"ذي قار" (معركتان في التاريخ انتصر فيهما العرب على الفرس). وترى طهران، بحسب سياسيين عراقيين، أنّه مع عودة "البعث"، ستكبر الثورة المضادة ضد النظام الإيراني، لذلك لن تسمح بالمفاوضات مع "البعث" وستمارس ضغوطاً كبيرة على الأحزاب الشيعية من أجل إفشال أي مبادرة لإعادة الحزب إلى الواجهة، أو حتى تعديل القانون أو تحويله قضائياً.
غير أنّ الموقفين الإيراني والكويتي قد يتغيّران في حال كان الخيار بين سيطرة "داعش" على مناطق عراقية شاسعة، أو حزب "البعث". في هذه الحال، ستفضّل الخيار الثاني، وقد يحل "البعث" في ما بعد مكان قوات "الصحوة" في مواجهة التنظيم الذي يبدو الجيش الحكومي عاجزاً عن إخراجه حتى الآن من بلاد الرافدين، وذلك في مقابل منح "البعث" بطاقة الدخول للعمل السياسي مجدداً.
هذا يعني أن الوضع الحالي في العراق يمنح الحزب فرصة الولادة مرّة أخرى. وممّا لا شك فيه أن هذا الملف سيمرّ في مخاض عسير قبل إعادة إنتاجه في العراق، ولن يكون في جميع الأحوال، إن نجحت المفاوضات، ضمن إطاره السابق، أي "حزب البعث العربي الاشتراكي"، بل سيكون من خلال رموزه السابقة التي تحظى بدعم وتأييد بعض شرائح الشعب العراقي، وقد يؤدي نجاح تلك الشخصيات على مدى سنوات غير قصيرة، إلى ظهور الحزب مرة أخرى بشكله المعروف.