لا يجد المتتبع لخارطة تحركات تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، منذ مطلع العام، عناءً في التعرف على جزء كبير من مخططاته ومشروعه في بلاد العراق والشام. فتحركات التنظيم على طول مسار نهر الفرات غرباً باتجاه بغداد، وأسلوب جذبه للخصم في مناطق سيطرته، ثمّ استنزاف قدراته قبل التقدم إلى منطقة أخرى محققاً نصراً ميدانياً وآخر إعلامياً، فضلاً عن غنائم الأسلحة والمعدات التي يحصل عليها من الجيش والمليشيات، تشير إلى أنه يملك خطة ثابتة ونفساً طويلاً ومشروعاً يسعى لتحقيقه أخيراً، مستغلاً الوهن العسكري والسياسي للخصم، والتردد الغربي في الملفين العراقي والسوري.
يراهن زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي على بناء جيش قوي لا يقل قوامه عن 100 ألف مقاتل بأسلحة ثقيلة ومتوسطة، وفقاً لخبراء أمن عراقيين، تنتقل إليه من خصمه العراقي الذي لا يزال جيشه يتلقى الأسلحة الغربية، وسرعان ما يفقد جزءاً منها على يد التنظيم في مواجهاته المتكررة. كذلك يستفيد من "الكرم الإيراني" في سورية، من خلال ما يغنمه منه في معاركه المستمرة أو من شحنات الأسلحة القليلة التي تصل إلى فصائل المعارضة المتصارع معها.
يمكن القول إن سقوط الأنبار يعد الحدث الأبرز في مرحلة "عراق داعش"، بعد سقوط الموصل في 10 يونيو/ حزيران 2014، إلّا أنّ وقعها عسكرياً وميدانياً سيكون مختلفاً تماماً. فالموصل التي تبعد عن بغداد 430 كيلومتراً، والتي تحولت إلى عاصمة للتنظيم، لا تشكّل أي خطر على نظام الحكم في البلاد، بسبب بعد المسافة واستحالة استخدامها كمنطلق للهجوم على بغداد، على عكس الأنبار التي تعتبر أقرب المحافظات العراقية من بغداد وأكبرها، حيث تحتل ثلث مساحة العراق وتشرف على ثلاث دول مهمة؛ الأردن والسعودية وسورية.
اقرأ أيضاً: "داعش" يزحف نحو بغداد.. والمليشيا تتحصن بخط دفاعيّ
سريعاً، يمكن مراجعة خارطة محافظة الأنبار قبل الشروع بالحديث عن سيناريوهات محتملة الحدوث في الشهرين المقبلين. فالأنبار باتت تحت سيطرة التنظيم المتطرّف، باستثناء ثلاث مدن تحوي قواعد عسكرية عراقية يتواجد بداخلها نحو 300 عسكري أميركي، وهي عامرية الفلوجة وعين الأسد والحبانية. باتت هذه المدن أشبه ما تكون بجزر صغيرة داخل المحافظة. ووقوع الأنبار على خطوط تماس دولية مع الأردن والسعودية وسورية واتصالها مباشرة مع الموصل من جهة الشمال، يجعلها بيئة مناسبة للتنظيم أكثر من أي منطقة أخرى. كذلك ترتبط مع كربلاء من الجنوب الشرقي، ومع بغداد من الشرق، ومع سامراء من الشمال الشرقي.
منحت تضاريس المحافظة المعقدة أفضلية لمن يمسك بها، إذ أخفقت القوات البريطانية في السيطرة على الأنبار عام 1919، إبّان احتلالها للبلاد، وشكّلت مصدر أرق للحكام في العراق، ومنحها الرئيس الراحل صدام حسين ثلاثة تشكيلات عسكرية للسيطرة عليها. وفي فترة الاحتلال الأميركي، لم تستقر المحافظة تحت حكمهم مطلقاً بسبب مساحتها الشاسعة والمعقدة التي أعطت الأفضلية في الحروب، لأهلها أو المسيطرين على أرضها، وهو ما توصل إليه التنظيم وحاول تحقيقه ونجح في ذلك على الرغم من الخسائر في معداته وصفوفه، والتي كانت أكثر بأضعاف من خسائره في المناطق الأخرى.
تكمن أهمية الأنبار في أنّها أقصر الطرق إلى بغداد وأكثرها سهولة، وفقاً لقائد قوات عمورية في الجيش العراقي سابقاً، والخبير الأمني عبد السلام أحمد الذي يؤكد إنهاء داعش مرحلته الأولى في خارطة "طريق الفرات" إلى بغداد. ويضيف أحمد في حديثه إلى "العربي الجديد" أنّ "التنظيم يتصرف بعقلية عسكرية حقيقية لا يمكن إنكارها، إذ سعى إلى تأمين ظهره قبل الهجوم على بغداد من الأنبار، باعتبار أنّه بات اليوم على بعد 35 كيلومتراً منها، حيث مقره الرئيسي في الفلوجة، ولا يوجد أحد خلفه ليوجه إليه ضربات تمنع أو تعرقل تقدمه نحو العاصمة".
اقرأ أيضاً: بغداد تتحصّن من خطر "داعش" في الأنبار... وتستنجد بطهران
ويبيّن أحمد أنّ "داعش أكمل طريق الفرات بشكل كامل تقريباً. فسيطرته على مدينة القائم، نقطة دخول الفرات من سورية إلى العراق في الأنبار آتياً من البوكمال، ثمّ مهاجمته آلوس وهيت وجبة ثم البغدادي، وعودته إلى الرمادي والسيطرة عليها، والتقاؤه مع الفلوجة شرقاً، ثمّ قرى زوبع والكرمة شرقاً وشمالاً، جعلته ينفتح على بغداد، إذ لم يتبقَّ أمامه مدينة أخرى سوى العاصمة".
ويضيف الخبير أنّ "على الحكومة والتحالف إذا أرادوا إيقاف التنظيم وتجميد تحركه نحو العاصمة، المبادرة إلى تحويل المعركة في أراضي التنظيم التي يسيطر عليها وإشغاله هناك، على الرغم من أن ذلك سيكون استنزافاً كبيراً للقوات الحكومية والمليشيات، وهو ما تريده داعش أساساً في الوقت الحالي".
ميدانياً، باشرت المليشيات في التحرك نحو الأنبار بعد شهر من عملية الشد والجذب بين رافض وموافق لتلك المشاركة، انتهت بتصويت مجلس المحافظة على دخولها. وعلى الرغم من وفرة أعداد المقاتلين المتوجهين للمحافظة، إذ يقدر عددهم بنحو 10 آلاف مقاتل، إلا أنّ المعارك لا يتوقع لها حسم سريع، بل جاءت كما تشتهي قيادات "داعش" في جرّ الخصم إلى مناطق سيطرته ثم استنزافه وإضعافه لتكون المهمة المقبلة أسهل بكثير، أي بغداد.
ويعول التنظيم على حلول شهر رمضان بعد أسابيع قليلة، لرفع الروح المعنوية لمقاتليه وإقبالهم على تنفيذ العمليات الانتحارية بلا هوادة، ما سيعطي قوة إضافية له تمكّنه من تحويل المحافظة إلى مجزرة بحق القوات العراقية النظامية والمليشيات، أبرزها بدر والعصائب وحزب الله والمهدي والخراساني والأبدال. في المقابل، فإن قادة تلك المليشيات يسعون إلى إثبات قوتهم وخطأ رئيس الحكومة حيدر العبادي والولايات المتحدة في تحفظهم على مشاركتهم في تحرير الأنبار، فضلاً عن حاجتهم في توصّل واشنطن إلى قناعة انتفاء الحاجة لتسليح العشائر السنية، إذا ما سيطرت المليشيات على الأنبار فعلاً.
اقرأ أيضاً: العبادي إلى موسكو بحثاً عن دعم عسكري
أمام هذا المشهد، ستكون مدينة الرمادي والكرمة والفلوجة مسرح العمليات للقوات المهاجمة التي تغذي نفسها بالمقاتلين والسلاح جواً عبر قاعدة الحبانية الجوية فقط، بعد قطع التنظيم طرق جميع طرق الإمداد بين بغداد والأنبار أو كربلاء والأنبار، وكذلك سامراء والأنبار، مقابل تمتعه بخطوط إمداد مريحة من سورية عبر البوكمال والموصل عبر بادية الجزيرة المرتبطة بمدينة حديثة غرب الرمادي.
سيطرة داعش على هذه المناطق الثلاث، الرمادي والكرمة والفلوجة، لم يكن عشوائياً، إذ شهدت في السنوات الماضية عمليات قتال ضارية بين تنظيم القاعدة والجيش الأميركي، تكبّدت خلالها القوات الأميركية خسائر كبيرة بالمعدات والأرواح بسبب حواجزها الطبيعية حول المدن التي تعطي الأفضلية لمن في داخلها على المهاجم لها من الخارج، مع مراعاة فارق القوة الحالية بين "داعش" والقاعدة سابقاً، وبين القوات الأميركية والمليشيات والجيش العراقي من جهة أخرى. وتشير التوقعات الحالية للمعركة في الأنبار إلى أنها عملية استنزاف، نجح "داعش" بجرّ القوات العراقية والمليشيات إلى المحافظة وإيقاع خسائر كبيرة في صفوفه، وسيتمكن خلالها من إضعاف قوات الخصم وإنهاكها بشكل يضعف دفاعات بغداد على أقل تقدير.
وعلى الرغم من تأكيدات صدرت عن قادة المليشيات على أن تحركهم للأنبار يأتي ضمن قاعدة "خير وسيلة للدفاع هي الهجوم"، لحماية كربلاء وبغداد من هجوم محتمل قد يفضي إلى كوارث ومجازر يرتكبها التنظيم في حال دخولها إلى المدينتين، إلّا أنهم قد أوقعوا أنفسهم بخطأ كبير، إذ ستكون قوات "الحشد الشعبي" أمام سيناريوهين أحلامها مرّ. يكمن السيناريو الأوّل بأنّ دخولهم للأنبار سيؤدي إلى استنزاف قواتهم خلال شهرين أو ثلاثة، يصعب فيها انسحابهم من المعركة وإعلان هزيمتهم أمام "داعش"، ما يعني أنهم سيستمرون بالمعارك ويضخّون المقاتلين حتى انهيار تلك القوات، وفتح الطريق إلى بغداد وكربلاء التي ردّدها التنظيم في بيانات وخطابات صوتية عقب معارك الأنبار جاءت على لسان البغدادي والمتحدث باسم التنظيم أبو محمد العدناني، "معركتنا المقبلة في كربلاء وبغداد".
اقرأ أيضاً: قلق أميركي من خسارة "جولة الرمادي" وخيارات محدودة
ويتحدّث السيناريو الثاني عن انسحابهم المبكر من المحافظة، وسيتراجعون إلى حدود بغداد وكربلاء التي سيكون التنظيم فيها أقل قوة من الحشد والجيش بفعل معرفتهم المسبقة بتلك المناطق واستماتتهم في الدفاع عنها، ما سيدفع بالحكومة والمليشيات إلى الموافقة على برنامج تسليح الولايات المتحدة للعشائر في الأنبار، وإعادة تهيئة قواتها للتصدي للتنظيم الذي يخشى تكرار مصير تنظيم القاعدة عام 2006 عندما هزم من قبل العشائر. احتلال "داعش" للأنبار، أخطر بأضعاف من احتلاله للموصل أو أي محافظة عراقية أخرى. فعوضاً عن القلق الذي يسببه لكل من الأردن والسعودية، فإنّه يمثل المرحلة ما قبل الأخيرة في مهاجمة بغداد على وجه التحديد، إذ ستتلو مرحلة احتلال الأنبار معارك استنزاف تستمر لعدة أشهر بين كرّ وفرّ، يحاكي فيها معارك بيجي شمال العراق على نحو أعلى وأكبر، ليتمكّن من استنزاف أكبر قدر ممكن من القوات المهاجمة له والمخصصة أساساً لحماية بغداد.
لكن في حال انسحبت تلك المليشيات ولم تكمل قتالها، وهو أمر مستبعد في الوقت الحالي، فإنّ الحكومة ستوافق مرغمة على تسليح العشائر السنية التي باتت القوة الوحيدة التي يمكن لها هزيمة "داعش" بسبب معرفتها لطبيعة وجغرافية الأرض وإمكانية إحداث انشقاق في صفوف التنظيم بالنسبة للمقاتلين العراقيين داخله. عندها تكون الولايات المتحدة قد حققت نتائج ترجوها، تكمن في إضعاف مليشيا الحشد وتسليح العشائر، وإبعاد أي نفوذ إيراني عن الأنبار قد يعيد فتح طريق مساعدات طهران دمشق بعد نحو عام ونصف العام على توقفه. ما يعني أن سقوط الأنبار يرتبط بخروج نتائج ومعطيات جديدة عسكرية وسياسية أيضاً في العراق، قد تبدأ بالظهور سريعاً.
اقرأ أيضاً: عشائر الأنبار تتوجّه لحل مجلس المحافظة وتشكيل حكومة طوارئ