وكان الرئيس التونسي تحفّظ على إعلان حالة الطوارئ عندما طُرح الأمر أثناء مداولات المجلس الأعلى للأمن الذي أشرف عليه قبل أيام قليلة، ولكنه في سياق استعراض مبررات إعلان حالة الطوارئ، ذكر السبسي عند إعلان الطوارئ أنه في حال حدوث عملية إرهابية أخرى، فإن "الدولة ستنهار"، وهو كلام يدل على حجم الكارثة التي حصلت في سوسة، كما يعكس ضخامة المخاطر التي تهدد تونس خلال الأيام والأسابيع المقبلة، في ظل انفجار العنف في المنطقة.
وتمثّلت الإشارة الثانية التي وردت في كلمة السبسي إلى الشعب التونسي والمفعمة بالإيحاء بخطورة الوضع، في تأكيده أن تونس غير قادرة على مواجهة الإرهاب بمفردها، خصوصاً أن بؤر الإرهاب ليست بعيدة عنها، مذكّراً بالحالة الليبية التي تعج بالمخاطر، حيث انعدمت الدولة وتمكنت تنظيمات مسلحة من السيطرة على جزء من الأرض والثروة. وفي كلام السبسي إيحاء بأن تونس مقبلة على مزيد من توثيق علاقاتها الأمنية والعسكرية مع الاتحاد الأوروبي من جهة، ومع الولايات المتحدة الأميركية من جهة ثانية، بعدما أصبحت الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة من خارج حلف شمال الأطلسي، وثالثاً الانفتاح على جميع الاختيارات الممكنة مع الجار الجزائري.
وكأن السبسي يقول لشعبه بأنه والفريق الذي معه مضطران إلى الدخول في أي صيغة أمنية وعسكرية من شأنها أن تساعد تونس على التصدي لخطر الإرهاب مهما كانت كلفتها، وذلك في سبيل الحفاظ على بقاء الدولة واستمرار الوطن التونسي. فعباراته التي استعملها في كلمته جاءت مثقلة بالشعور بالمسؤولية تجاه مرحلة مفصلية في تاريخ هذا البلد. فتونس لا تملك قدرات مصر أو العراق وسورية، ولم تكن مهيأة في مرحلة من مراحلها الحديثة لخوض حرب حقيقية مع التنظيمات الإرهابية التي تتمتع بقدرة على استنزاف خصومها على المديين المتوسط والبعيد.
اقرأ أيضاً: تونس بعد زلزال سوسة: حزم حكومي بمواجهة التهديدات
ويأتي الإعلان عن حالة الطوارئ فيما تمر البلاد بأوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، وهو ما دفع السبسي إلى اعتبار ذلك أحد العوامل التي دفعته إلى اتخاذ هذا القرار. وقد بدا واضحاً أن الدولة التونسية ليس باستطاعتها أن تواجه حرباً مكلفة مع الإرهاب من جهة، وأن تستمر في تحمّل أعباء الضغوط الاجتماعية ووسائلها المؤلمة من جهة أخرى.
أراد السبسي بإعلانه حالة الطوارئ أن يفرض على النقابات هدنة لم يعد بالإمكان تأجيلها، إذ بهذا القرار تتولى الحكومة والجيش وأجهزة الأمن منع الإضرابات والاعتصامات، بسلطة القانون وبقوة السلاح، إن لزم الأمر. فمصلحة الدولة تصبح ذات أولوية قصوى مهما كانت شرعية بقية مطالب شرائح الشعب التونسي المختلفة. وهو ما يجعل القرار فيه مجازفة من الجانبين الرمزي والمؤسساتي.
السؤال الذي بقي مطروحاً بعد كلمة الرئيس التونسي: لماذا غيّر رأيه من مسألة إعلان حالة الطوارئ، وهو أمر رفضه قبل أيام، ثم عاد ليعتبره ضرورة عاجلة؟
يقول بعض المحيطين بالسبسي إن من طبيعة الرجل أنه يرفض التسرّع في اتخاذ القرارات الخطيرة، ولهذا أخذ من الوقت ما جعله يتأكّد من خطورة الأوضاع، واقتنع أخيراً بأنه لا مفر من اتخاذ هذا القرار الصعب، وذلك على الرغم من تداعياته السلبية على السياحة والاستثمار في تونس. ولم تستبعد المصادر نفسها أن يكون لدى الرئيس التونسي معلومات خطيرة بلغته أخيراً ورفض الإفصاح عنها، أكدت له أن البلاد مهددة فعلاً، وأنه ليس من المصلحة الوطنية التردد أو التأخر في مواجهة الأخطار المحدقة.
مهما كانت الأسباب والدوافع، يبدو أن للسبسي مبرراته التي جعلته يعلن عن حالة الطوارئ في مثل هذا الظرف الدقيق الذي تمر به البلاد. ومن المؤكد أن للقرار بُعداً وقائياً من شأنه أن يعطي للمؤسستين العسكرية والأمنية صلاحيات واسعة و"سلطة استثنائية لتعزيز جهودهما في التصدي للتهديدات الإرهابية والوقاية منها"، كما أكد الأمين العام لحزب "نداء تونس"، محسن مرزوق.
لكن هذا القرار يثير تساؤلات ومخاوف لدى البعض إزاء احتمال عودة "الدولة الأمنية"، بما يمكن أن تحمله من عودة لبعض رموز نظام المخلوع زين العابدين بن علي بداعي حماية الدولة من الإرهاب.
ويمكن للسلطات، خلال فترة حالة الطوارئ في المناطق المشار إليها بالفصل الثاني للقانون، والذي جرى سنّه في عام 1978، وبحسب ما تقتضيه ضرورة الأمن أو النظام العام، منع تجول الأشخاص والعربات، ومنع كل إضراب أو صد عن العمل، حتى لو تقرر قبل الإعلان عن حالة الطوارئ، وتنظيم إقامة الأشخاص، وتحجير الإقامة على أي شخص يحاول بأي طريقة كانت عرقلة نشاط السلطة العامة، واللجوء إلى تسخير الأشخاص والمكاسب الضرورية لحسن سير المصالح العمومية والنشاطات ذات المصلحة الحيوية بالنسبة للأمة.
كما يمنح قانون الطوارئ وزير الداخلية صلاحيات "وضع الأشخاص تحت الإقامة الجبرية، وتحجير الاجتماعات، وحظر التجول، وتفتيش المحال ليلاً ونهاراً، ومراقبة الصحافة والمنشورات والبث الإذاعي والعروض السينمائية والمسرحية، من دون وجوب الحصول على إذن مسبق من القضاء".
وعلى الرغم من أن معظم المرحلة السابقة من يوميات الثورة التونسية قد خضعت لقانون الطوارئ، لكن المؤكد أن التحدي الأمني بعد عمليتي باردو وسوسة قد فرض نفسه من جديد، وهو ما دفع السبسي إلى البحث عن تعبئة الرأي العام للوقوف بجدية وراء الجيش والشرطة لمواجهة المخاطر الإرهابية. على الرغم من أن أهم كوادر تنظيم "أنصار الشريعة" التونسي قد اعتُقلوا أو لقوا حتفهم، خلال السنوات الثلاث الماضية، وكان آخرهم مؤسس التنظيم سيف الله بن حسين المكنى بـ"أبي عياض"، حسب ما تدعيه مصادر أميركية، إلا أن ذلك لم يقلل من حجم المخاطر، خصوصاً بعد دخول تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) على الخط، واستعداد الجيل الثاني من الشباب الذين تم استقطابهم إلى هذا التنظيم لاستكمال بقية المشوار. والسؤال المطروح حالياً: هل ستلتزم جميع الأطراف باحترام مقتضيات هذا القرار وتتحمل تداعياته السياسية والاجتماعية؟
اقرأ أيضاً: إقالة محافظ سوسة وعمليات أمنية غرب تونس